تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[07 - 09 - 2009, 08:09 ص]ـ

ويقول، رحمه الله، في معرض التعليق على تعريف الهروي، رحمه الله، غنى القلب بأنه: "سلامته من الأسباب":

"قوله في الدرجة الأُولى وهى غنى القلب: "إِنَّهُ سلامته من السبب" أَي من الفقر إِلى السبب وشهوده والاعتماد عليه والركون إِليه والثقة به، فمن كان معتمداً على سبب غناه واثقاً به لم يطلق عليه اسم الغني، لأَنه فقير إِلى الوسائط، (على جهة الاعتماد عليها والركون إليها إن كان فقره مذموما)، بل لا يسمى صاحبه غنياً إِلا إِذا سلم من علة السبب استغناءً بالمسبب، بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره، فلذلك يصير صاحبه غنياً بتدبير الله عز وجل. فمن كملت له السلامة من علة الأَسباب، ومن علة المنازعة للحكم بالاستسلام له والمسالمة - أَي بالانقياد لحكمه - حصل الغنى للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته، فإِذا وقف العبد على حسن تدبيره واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناءُ بمجرد هذا الوقوف، ان لم ينضم إِليه المسالمة للحكم وهو الانقياد له، فإِن المنازعة للحكم إِلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار، وذلك دال على فقر صاحب الاختيار إِلى ذلك الشئ المختار، ومن كان فقيراً إِلى شيء لم يرده الله عز وجل لم يطلق عليه اسم الغنى بتدبير الله عز وجل". اهـ

بتصرف من: ص51.

فليس المراد: سلامته منه على حد تعطيله بادعاء التوكل، إذ التوكل: تَفََعُّل يدل على اكتساب الوصف الممدوح، ولا يكون ذلك إلا بعد بذل السبب المشروع على حد الاستغناء بمسبِّبه ومجريه وفق سننه الكونية المحكمة، فيبذل السبب مع انقطاع علائق القلب به، إذ هو بتلمس مراضي الرب، جل وعلا، مشغول، فله في كل حركة وسكنة نية، فنية في العبادات التوقيفية، ونية في العادات الجبلية، ومنها الأسباب الكونية التي أودع الرب، عز وجل، فيها قوى التأثير، فلا تؤدي إلى نتائجها إلا بإذن ربها وخالقها، فالجمع بين مقام الربوبية بالتوكل وذلك عمل القلب، ومقام الألوهية بمباشرة السبب وذلك عمل الجوارح، هو مقام المسددين من العالمين الذين استغنوا بالرب عن المربوب، وبالمسبب عن السبب، ولم يحملهم ذلك على تعطيل شرعه بمعارضته بقدره.

فمن عطل السبب بدعوى الغنى فهو فقير ناقص العقل، إذ طلب ما لم تجر به السنة الكونية من حصول المطلوب بلا مباشرة لسببه، فلا يتصور شبع بلا طعام، وري بلا ماء، إذ الخلقة البشرية تباين الخلقة الملائكية، فعوارض النقص للأولى لازمة، فلغوب وجوع وعطش ومرض ونوم وكلل وهرم وموت ......... إلخ، فكيف يدعي الغنى من هذا وصفه، فضلا عن فقره إلى مغفرة ربه، جل وعلا، ورضوانه، فهو فقير ببدنه إلى أسباب الكون، فقير بروحه إلى أسباب الشرع، فقير لما يدفع به جيوش العدو المتربص: من شهوات وشبهات وهموم وأحزان ........ إلخ فتلك جنود العدو الإبليسي الخفي، فضلا عن جنود العدو الإنسي الظاهر الذي يكيد له ليل نهار بمقتضى سنة التدافع الكونية، فكتائبه متتالية، من أسنة تسفك الدماء، ومقالات تهدم الأديان، فصور الغزو متباينة: فغزو عسكري، وآخر عقلي، وثالث اقتصادي ............. إلخ، و: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)، ولكنه شاء ذلك وأراده إظهارا لقدرته بنصرة أوليائه وحكمته في تسلط أعدائه على أوليائه حينا يحصل به التمايز والتمحيص والعاقبة للمتقين، ففي ذلك الصراع المرير يظهر من كمالات الرب، جل وعلا، ما تقر به أعين الموحدين، فأسعد الناس بذلك من فقه معاني أسماء الرب، جل وعلا، فحصل له من العلم بأوصاف جماله وجلاله ما يطمئن به قلبه في أزمنة الفتن التي تطيش فيها العقول وتضطرب فيها الأفئدة لاستبطاء النصر، ولا نصر إلا باستكمال عدده وأسبابه، فذلك، أيضا، من السنن الكونية الجارية، التي يظهر من إحكامها وإتقانها وصفا، واطرادها وقوعا، ما يحمد به الرب العليم الحكيم تبارك وتعالى.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير