تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولذلك كان مسلك رهبان الأمم الذين أظهروا خلاف ما جرت به السنن الكونية من لزوم تعاطي أسباب البقاء من مطعوم ومشروب ... إلخ، خروجا عن حد الاعتدال، بل خروجا عن أمر الله، عز وجل، الشرعي، بحفظ العقول والأبدان، فلسان حالهم: الغنى عن الأسباب وليس ذلك من جبلة البشر في شيء بما فيهم الأنبياء، عليهم السلام، صفوة الخلق وأحقهم بوصف الكمال، وفي التنزيل: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ)، ففعل أولئك: نوع تشبه بالرب، جل وعلا، في وصف الغنى المطلق عن الأسباب، وذلك من أخص أوصاف ربوبيته، فصنيعهم هذا خروج عن حد البشرية طلبا لما ليس لبني آدم من وصف الكمال فجبلته شاهدة بضده، فذلك عند التحقيق: معارضة للقضاء الكوني بما لم يشرع من الأسباب، فإن القضاء الكوني إن كان مما يعارض، كما سيأتي إن شاء الله، فإنما يعارض بقضاء كوني مشروع، فتظهر حكمة الرب، جل وعلا، في تدافع قوى الأسباب الرافعة والعوارض النازلة، وتظهر عبودية الفاعل: كونا إذ هو فقير إلى السبب استبقاء واستصلاحا لروحه وبدنه، وشرعا: إن كان من المسددين، فاستحضر نية صالحة في مباشرة السبب فانقلبت عادته عبادة كما سبقت الإشارة إلى طرف من ذلك.

وعلى النقيض: من جعل السبب معتمده، فباشره على حد الغفلة عن قدرة مجري السبب، فغلظ حجابه فلم ير إلا القوة الكامنة في السبب فجعلها مستقلة بالتأثير دون نظر إلى خالقها ومودعها في السبب ومجريها بمقتضى إرادته الكونية النافذة، فهو فقير إلى السبب، وذلك الفقر المذموم، إذ شغل بالسبب عن مسبِّبه، وبالمخلوق عن خالقه، فله من العذاب بقدر تعلقه بالمخلوق وله من وصف الفقر ما يبطل دعواه الغنى بالأسباب إذ قد عدل عن الفقر إلى الرب، جل وعلا، الذي يكمل به حال المخلوق إلى الفقر إلى المربوب من مال أو جاه أو رياسة، الذي ينقص به حاله ويفسد به نظامه.

ثم أشار ابن القيم، رحمه الله، إلى وجه آخر من أوجه افتقار الإنسان الذي لا يستغني بربه، جل وعلا، فيرضى بحكمه القدري ويمتثل قدره الشرعي: رفعا للمقدور المكروه بما شرع من الأسباب، أو صبرا عليه، فقال:

"فلا يتم الغنى بتدبير الرب عز وجل لعبده إِلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره، ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من مخاصمة الرب سبحانه. فإِن منازعة الخلق دليل على فقره إِلى الأَمر الذى وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيراً إِلى حظ من الحظوظ - يسخط لفوته ويخاصم الخلق عليه - لا يطلق عليه اسم الغنى حتى يسلم الخلق من خصومته بكمال تفويضه إِلى وليه وقيومه ومتولى تدبيره، فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علة منازعته لأَحكام الله عز وجل ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ، استحق أَن يكون غنياً بتدبير مولاه مفوضاً إِليه لا يفتقر قلبه إِلى غيره ولا يسخط شيئاً من أَحكامه ولا يخاصم عباده إِلا فى حقوق ربه فتكون مخاصمته لله وبالله، ومحاكمته إِلى الله، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى استفتاح صلاة الليل: "اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنبت، وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ"، فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه ومحاكمته خصمه إِلى أَمر الله وشرعه لا إِلى شيء سواه، فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه وانتصر لنفسه، وقد قالت عائشة: "ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط"، وهذا لتكميل عبوديته. ومن حاكم خصمه إِلى غير الله ورسوله فقد حاكم إِلى الطاغوت، وقد أمر أن يكفر به، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده كما هو كذلك فى نفس الأَمر"

ص51_53.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير