تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا أمر لم ولن يسلم منه أحد منا في بعض شأنه، وربما في كل شأنه، فمن مقل ومن مكثر، فإن للنفس حظا من المدح والوجاهة وحب الرياسة، ربما فاق حظها من الملاذ الحسية من مطعم ومشرب بل ومنكح، إذ هو أعظم ملاذ البدن، ومع ذلك تتضاءل تلك اللذة الجسدية المحسوسة أمام اللذة الروحية الموهومة: لذة الوجاهة والرياسة، وهي لذة غير محصورة في مرحلة معينة من مراحل العمر، كملاذ الطفولة من لعب وإقبال على مطعومات ومشروبات بعينها فيها من الحلاوة ما تباشر قوى الإحساس فتلتذ بها النفس تبعا لالتذاذ الحواس الظاهرة بها، وملاذ الشباب وأظهرها لذة المنكح فهي على حد أي شهوة حسية، وإن كانت أعظمها، تظهر آثارها على الجسد ابتداء، فلتذ الروح بها تبعا، فلذة النفس في حب المحمدة والثناء لا تحصر في زمن بعينه فإنها ملازمة للإنسان في جميع مراحل عمره، فإن الطفل الصغير، وإن غلب على نفسه الميل إلى شهوات البدن تبعا لنقصان عقله وإدراكه إلا أنه لا ينفك عن نوع حب للظهور والوجاهة، وهو ما قد يحمله على فعل أمور مشينة، طلبا للظهور ورغبة في اجتذاب أنظار والديه، إن أهملاه، لانشغالهما بأخ أو أخت له، أو لظنهما أنه غير كامل الإدراك فلا يتأثر بإهمالهما، ولذلك كان التمييز بين الأبناء سببا رئيسا في تدمير شخصية الطفل، وجنوحه إلى السلوك العدواني مع إخوته، ومع مجتمعه، فيميل إلى انتهاك الأعراف والنواميس، فهمه تحصيل ما افتقده من العناية والاهتمام، ولو جلب له ذلك من الذم والعقاب ما جلب!.

وكذلك الشاب، وهو أعظم الناس حظا من تلك اللذة الموهومة، فمنتهى أمله: التفوق على أقرانه، واستجلاب أسباب المدح واستدفاع أسباب الذم، ولو تشبع بما لم يعط زورا، فيدعي لنفسه من الكمال ما يرفع به المذمة، ولكل جماعة قياسها، ففي الأزمنة الفاضلة يكون القياس بمعالي الأمور من علم وحسن خلق ......... إلخ، فيتشبع فاقدها بها طلبا للمدح الذي تلتذ به نفسه، ولو كذبا وزورا. ومن مأثور أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: "كفى بالعلم شرفا أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح إذا نسب إليه وكفى بالجهل ذما أن يتبرأ منه من هو فيه".

فيدعيه من ليس من أهله، اسما بلا مسمى، طلبا لسعادة موهومة ودفعا لضيق يورثه الجهل، فإنه سبب رئيس في ضيق الصدور بخلاف العلم الذي تشرح به الصدور، على حد قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)، فمن يرد الله، عز وجل، به خيرا، فضلا منه وامتنانا، يشرح صدره بأشراف أجناس العلوم: علم التوحيد على حد ما جاءت به الرسل، عليهم السلام، أصح الناس فهوما وعلوما، ومن يرد أن يضله، عدلا منه وحكمة، يحجب عنه ذلك العلم الإلهي الشريف فيضل قلبه في أودية التشريك والتثليث فيورثه ذلك من ضيق الصدر ما الله به عليم، ولذلك تجد من هذا حاله أتعس الناس باطنا، وإن كان أسعدهم ظاهرا، إذ يتلهى بصور المتع الظاهرة عن آلام النفس الباطنة، وحال المشركين والملحدين لمن اطلع على دقائق معايشهم خير شاهد على ذلك، فقلق وخوف دائمان لا ينقطعان، وإن أظهروا خلافهما، على حد ما تقدم من التشبع بما لم يعطوا، كذبا وزورا.

وكذلك الشيخ، فإنه كما يقول أحد الفضلاء المعاصرين، قد فنيت شهواته الجسدية، فلم يعد له في المأكل أو المنكح، حاجة، ولم يعد له على السفر والترحال قدرة، فقد فنيت قواه الجسدية، ولكن حظ نفسه لم ينضب، فلا يزال، على الجبلة الأولى، جبلة حب الرياسة والتعظيم، بل هو عليها أحرص، لمكانه من الخبرة والتجربة، فصاحبها مظنة التصدر والرياسة، فضلا عن كونه لا يملك عمليا! ما يلتذ به إلا تلك الشهوة النفسية الكامنة، ولكل نفس حظها، فلم ينج منه إلا أكابر أهل الفضل من العلماء الربانيين، فرأينا في تاريخ أمة الإسلام خلاف الأقران، الذي يحمل القرين على القدح في قرينه من طرف خفي أو ظاهر، وربما كان ذلك برسم الإخلاص والتجرد، وربما شابه حظ نفس لا يسلم منه أحد إلا من عصم الله، عز وجل، من خيار المتجردين الذين بذلوا أعراضهم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير