لإخوانهم، فتجردوا من حظوظ النفس لحظ الدين، فلا ينتصرون إلا له، ولا تتحرك نفوسهم إلا ذبا عنه، وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صاحب الطريقة المثلى في هذا الباب، شأنه في ذلك شأنه في كل أبواب الخير، فهو أعلم الناس بها وأحرصهم على تحصيلها وأقدرهم على أدائها بما آتاه الله، عز وجل، من عظم الخُلق وكرم النفس، على رسم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، فاستعارة الاستعلاء الحسي للاستعلاء المعنوي مئنة من تمكنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذلك الوصف فليس تصنعا أو تخلقا، وإنما هو جبلة راسخة، لمكان الاصطفاء والعصمة فلا يختار الله، عز وجل، لحمل رسالاته إلا أعظم البشر قدرا وأرفعهم شأنا: الأنبياء عليهم السلام، ولا يختار، جل وعلا، بمقتضى قدرته وحكمته، لحمل رسالته الخاتمة التي نسخت الرسالات السابقة، إلا أفضل أولئك الأخيار، فهو خيار من خيار: قد اجتمع معهم في أصل النبوة وافترق عنهم فيما اختص به من الرسالة الخاتمة.
وأما في الأزمنة المفضولة: فإن القياس: قياس آخر!، إذ أسباب الوجاهة التي تحصل بها تلك اللذة الموهومة هي: المال أو جمال الخلقة الظاهرة ........ إلخ، وتلك أمور ظاهرة تعكس تعلق أصحابها بالصور الظاهرة، وإن كانت الحقائق الباطنة زائفة، ولكل زمان قياسه!.
والشاهد أن ذلك الافتقار إلى تلك اللذة الموهومة: أمر جبلي قد فطرت عليه القلوب، كما فطرت الأبدان على الافتقار إلى أسباب البقاء، فجنس الافتقار واحد، ولكن فقر النفوس أعظم، فإذا طلب صاحبه الاستغناء بالمدح، ولو زورا، فكان مدح العباد أو ذمهم محط نظره ومنتهى أمله فهو في مدحهم راغب، ومن ذمهم راهب، فذلك عين ما فر منه، إذ ذلك هو الفقر إلى ما بأيدي العباد من حظوظ النفس العاجلة، وليس ذلك من طريقة أهل الإخلاص في شيء، وبقدر تعلق النفس بحظها من غير الله، عز وجل، يكون الفقر المذموم الذي يفسد حال القلب بالقدح في إخلاصه: مادة حياته.
ولذات الدار الفانية فرع عنها فهي فانية إلا ما كان من لذة العلم بالله، عز وجل، أشرف معلوم، فإنها تحصل بتصحيح النية والعمل، فيصيران على طريقة النبوة، وذلك مظنة صلاح القلب بورود العلم النافع المزكي عليه، ومع ذلك فإن تلك اللذة لا تعدل لذة النظر إلى وجه الله، عز وجل، في دار النعيم فتلك أشرف اللذات المعنوية لتعلقها بأقدس ذات: ذات الرب، جل وعلا، القدسية التي قامت بها صفاته العلية. فاللذة العلمية: أشرف أجناس اللذات، ولذة النظر إلى وجه الله، عز وجل، أشرف أفرادها. وليس سواء: علم اليقين في الدنيا وعين اليقين في الآخرة.
وأما اللذة الوهمية بالتوقير والتبجيل والثناء، فإنها إلى زوال سواء أكان صاحبها مستحقا أم غير مستحق.
وأما اللذة الجسدية فهي أنقص تلك الأجناس، ومع ذلك فإن في الجنة أكمل صورها وصفا، وأعظمها قدرا.
فليس في الآخرة من أجناس اللذات إلا الأسماء، فالمسميات أشرف وأعظم تبعا لعظم الدار الباقية فهي فرع عنها كما أن أجناس اللذات العابرة في الدنيا فرع عنها، ولكل أصل فروعه.
فيا معشر الصابرين المرابطين على ثغور الدين:
عما قريب يحط الموحدون رحالهم في دار النعيم، فلهم فيها أكمل اللذات فإلى الرحمن ينظرون، ولعبارات التوقير والثناء من أفواه الحور العين يستمعون، وهو أمر قد حرم أغلب الأزواج منه في دار الابتلاء!، ولشتى أجناس اللذات يباشرون، وإن هو إلا صبر ساعة على التكليف الشرعي، وحسن خاتمة لمن سدده الله، عز وجل، في السكرات، تعقبها لذات لا تنقطع في جنات عدن التي وعد الرحمن.
فهنيئا لمن اصطفاه الله، عز وجل، فاصطبر لعبادته، ورزقه حسن الخاتمة، فهو أسعد الناس حياة في كل الدور.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 09 - 2009, 07:56 ص]ـ
ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان أنواع الأحكام، وسبق نقل كلامه على هذا الرابط في المداخلة الأولى تحديدا:
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=49020
¥