تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالحكم الشرعي هو محط التكليف، فبه يتميز المنقاد المطيع من المستكبر العاصي، ولا يوافق تلك الإرادة إلا المسددون الذين لا يشهدون لأنفسهم حظوظا إذا جاء أمر الشرع، فهمتهم قد سمت إلى التصديق والامتثال، فليس الشأن عندهم: لم قال؟، وإنما الشأن عندهم: ماذا قال ليصدق إن كان خبرا، ويمتثل إن كان طلبا بالفعل أو الكف، ومن نقل هذا الخبر إن كان مما تتفاوت فيه الأنظار قبولا أو ردا مما لم يبلغ حد التواتر القطعي، فإذا ثبتت صحة الدليل فهم أسرع الناس إلى العمل بمدلوله، فلا يردون أخبار الشرع الآحادية بدعوى أنها لا تفيد إلا الظنية، إذ ما ثبتت صحته فقد احتفت به من القرائن ما أوجب التدين به، تصديقا للخبر فبه يصلح القلب، وامتثالا للأمر فبه يصلح البدن، وذلك مراد الشارع، عز وجل، من عباده، فإن صلاح قلوبهم وأبدانهم، لو فقهوا، إنما يكون في اتباع الوحي المعصوم، فهو العاصم للقلوب من الشبهات، والعاصم للأبدان من الشهوات، والعاصم للأذواق من الشطحات، والعاصم للجماعات من جور السياسات، فالشرع منة ربانية في صورة ابتلاء بالشرعة الإلهية، فإن العاقل هو الذي يسلم لمن هو أعلم منه بأحوال القلوب والأبدان، ولو كان عدوا له، فالحكمة ضالته، ولو لم يعط نظير ذلك ثوابا عاجلا أو مؤجلا، فإن مجرد الظفر بوجه المصلحة كاف في اتباع الدال عليها، فكيف ومن شرع هو العليم بما ينفع ويضر المكلف في دينه ودنياه، وكيف وهو الرحيم به، فهو الذي تفضل عليه بالإيجاد والإعداد والإمداد، فليس عدوه بل هو ربه الذي رباه بأجناس النعم الشرعية والكونية، وهذا قدر فارق بين دين الإسلام وبقية الأديان الأخرى التي افترض واضعوها أو محرفوها إن كانت سماوية الأصل: أن العلاقة بين الرب والعبد: علاقة قهر وتجهيل، فالرب حريص على حجب أسباب الهداية عن عبده، فقد حظر على آدم الأكل من شجرة المعرفة، كما في سفر التكوين، وعاقبه بالطرد من الجنة والوصم بالخطيئة عقابا له على تطلعه إلى المعرفة! فصلاحه أن يظل جاهلا إذ لو تعلم لتمرد وخرج عن حكم الرب، كما حجبت آلهة الأوليمب سر النار، وهي رمز الحضارة، عن الإنسان لئلا يتفوق عليها!، فتلك علاقة الرب بالعبد عندهم، وأما علاقة الرب بالعبد عندنا، أهل الإسلام والتوحيد الخالص، فهي: (قوله تعالى في بعض الآثار: أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي. وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي. وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي. وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُؤَيِّسُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي. إنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ. أَيْ مُحِبُّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ. أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ لِأُكَفِّرَ عَنْهُمْ المعائب)، ودلائل العناية بالإنسان قد تواترت نقلا وحسا، فإن الله، عز وجل، لم يخلقنا ليقيدنا بالآصار والأغلال، وإنما ابتلانا بالشرع استصلاحا للقلوب والأبدان، فخلق وكرم بالقدر الكوني: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، وزكى وطهر بالقدر الشرعي: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، وابتلى كونا بالمرض والموت وسائر الآلام، ليعافي فضلا، فتظهر آثار نعمته الكونية العاجلة في دار التكليف، ويرفع درجة عبده في دار الجزاء فتلك آثار نعمته الشرعية الآجلة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير