تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والرسل، عليهم السلام، إنما بعثوا بأشرف أجناس العلوم تقريرا وتفصيلا، فالعلم الإلهي، ولا يكون إلا نافعا، والعلم الكوني النافع: مراد شرعي، فأول كلمات الشرع المنزل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، وذلك بخلاف أديان الكهنوت الباطلة، وشرائع الطاغوت الجائرة، فإن تجهيل الأتباع فيها مراد شرعي!، فلا يملك التابع مراجعة المتبوع ولو أمره بما يناقض المعقول، فإن أمر الديانة لا يتلقى إلا على حد التسليم المطلق، ولو كان محالا ذاتيا يناقض ما قررته النبوات الصحيحة والعقول الصريحة من التوحيد الخالص، والعلم النافع: مراد فطري فالإنسان بطبيعته، كما يقول أحد الفضلاء المعاصرين، قد جبل على حب المعرفة، وكشف ما حجب عنه من أسرار الكون، والبحث عما وراء هذا العالم من الغيب المطلق، وتلك نهمة لا تشبعها إلا النبوات التي جاءت بأخبار ما بعد هذه الدار على حد التفصيل الرافع لكل إجمال، ففصلت القول في أحوال دار البرزخ ودار البقاء وأوصاف أهل دار النعيم، وأوصاف أهل دار العذاب ..... إلخ، فضلا عن تفصيلها القول في أعظم وأجل الغيوب: أسماء الرب، جل وعلا، الحسنى وصفاته العلى، فذلك أعظم معلوم يراد لذاته، فما كان هذا الكون، وخلق هذا الخلق إلا لتظهر آثار أسماء وأوصاف الرب، جل وعلا، فتظهر آثار أوصاف جماله رحمة بأوليائه، وآثار أوصاف جلاله إهلاكا وتعذيبا لأعدائه.

وكيف وقد وعد الله، عز وجل، عباده الثواب إذا امتثلوا أمرا هو عين صلاحهم، وهو عنهم وعن طاعاتهم غني؟، فهو الذي وهب الأنفس ثم اشتراها وهي ملكه بجنة الخلد التي خلقها إكراما لأوليائه، كما أثر عن الفاروق، رضي الله عنه، وهو الذي وهب الأموال ووعد من أدى زكاتها بالطهر والنماء، فيربي للمتصدق صدقته حتى تكون مثل جبل أحد؟!.

وأما الحكم الكوني فإن منه ما يدفع بمباشرة الأسباب، فقد أقام الرب، جل وعلا، كونه على سنن ونواميس مطردة، فيدفع القدر الكوني بقدر كوني، فقدر الجوع يدفع بقدر الشبع بمباشرة سببه، وسبب الشبع بداهة: تناول المطعوم، فلو دفع الجائع جوعه بمطالعة كتاب أو إجراء حساب، لعد ذلك فسادا في الرأي والعقل، إذ جعل ما لم يجعله الرب، جل وعلا، بمقتضى حكمته الكونية سببا، جعله: سببا، فإن المطالعة من جنس العلم الذي يرفع به الجهل لا من جنس المطعوم الذي يرفع به الجوع، ففاعل ذلك قد اعتبر ما لم يعتبره الكون أو الشرع، فإن الجبلة الكونية قاضية بوجوب تناول المطعوم درءا لمفسدة الجوع، وكذلك الطريقة الشرعية، على حد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)، و: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)، فالاستسلام لقدر الجوع، أو رفعه بما لا يرتفع به، قتل بطيء للنفس.

والقتال قد وضع كونا وشرعا لردِ المعتدي، وبدءِ الطواغيت بالقتال استنزالا لهم من على عروشهم لتكون كلمة الشرع هي العليا، فإذا داهم العدو محلة المسلمين، فانشغل العباد بقراءة كتاب الجامع الصحيح في أروقة المساجد، كما وقع في مصر لما داهمتها الحملة الفرنسية، فإن ذلك من جنس رفع القدر الكوني بغير سببه الذي وضع له شرعا وكونا، فإن الله، عز وجل، قد وضع العلم، كما تقدم، سببا لرفع الجهل، لا لرد العدو الصائل، فالعدو الصائل على الأبدان إنما يدفع بحد السيف، كما أن العدو الصائل على الأديان إنما يدفع بحد الحجة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أكثر من مناسبة، ولكل ميدان سلاحه وأسبابه.

والعبد المسدد الذي فقه أمر القدر هو الذي يباشر السبب على حد التوكل على ربه ومجريه، لا على حد التوكل على القوى المودعة فيه، فيباشره تعبدا لا تعلقا به.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير