تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[10 - 09 - 2009, 07:33 ص]ـ

ثم تطرق ابن القيم، رحمه الله، إلى بيان الدرجة الثالثة من الغنى، وهي: الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه، وهي درجة شريفة رفيعة لا تنال بالدعاوى، بل إن أكثر من ادعاها ليس له من صدق الدعوى نصيب، فدعواه تفتقر إلى البرهان، لا سيما في أوقات النوازل التي تبلى فيها السرائر، ففي أزمنة الرخاء يدعي كل الكرم فإذا جاءت الشدة ظهر الكريم من الشحيح، وفي أزمنة الأمن يدعي كل الشجاعة، فإذا جاء الخوف ظهر الشجاع المقدام من الجبان المحجام، وسؤال الستر، كما تقدم مرارا، أمر لا غنى عنه، فإن الله، عز وجل، هو القادر وحده على أن يمتن على عبده بالثبات فضلا، أو ينزع منه الهداية القلبية فيزيغ ويزل عدلا، فمن رزق شكرا في العافية فليستمسك به ليكون له عونا على الصبر في النازلة، ومن بخل بدنياه فلم يبذلها انتصارا لدينه، بذلها انتصارا لحظ نفس أو شهوة عارضة أو بلية نازلة، فحظه المغرم بلا مغنم، بل ليته نجا منها كفافا، بل هو مبتلى مؤاخذ، فاجتمعت في حقه: مصيبة الدين إذ أحجم عن نصرته، ومصيبة الدنيا إذ ناله منها ما يكره، فهو باذل نفسه في تحصيلها، وهي معرضة عنه، فحظه منها شهوة يدفع بها عن قلبه ألم الوحشة يعقبها أضعاف تلك اللذة الموهومة من المرارة التي تفسد عليه عاجلته فضلا عما فسد من أمر آجلته.

وشتان همة من بذل الدنيا تحصيلا للدين، وهمة من بذل الدين والدنيا تحصيلا لعرض دنيا زائل، وكم رأينا في تاريخ هذه الأمة وحاضرها المشهود: أناسا آتاهم الله، عز وجل، رفيع الدرجات العلمية، فلهم من قوة التصور ما يبصرون به الحق بدليله، ولكنهم خذلوا بدخائل نفوسهم وجريان قدر الرب، جل وعلا، الكوني، فيهم بمقتضى عدله وحكمته، فليس لهم من صالح الأعمال نصيب، إذ ركنوا إلى الدنيا على حد الاستغناء، فعوقبوا بنقيض ذلك من فقر وفاقة إلى غير الله، عز وجل، لا ينقطعان، فإن تحمل عليهم يلهثوا أو تتركهم يلهثوا.

ولكل منا حظ نفس إن لم يتداركه بقيد الشرع استفحل فصار معقد ولاء وبراء القلب، فله يغضب وينتصر، وإن زين له سوء عمله فظنه حسنا، فرأى أنه ينتصر لأمر رفيع، وغايته، لو دقق النظر، أنه ينتصر لأمر وضيع.

وذلك من الأمور التي لا يجدي فيها كثير مقال إن لم يصطف الله، عز وجل، فيسدد ويوفق إلى واجب الوقت: شكرا في النعمة وصبرا في النقمة.

يقول ابن القيم، رحمه الله، في بيان أول هذه الدرجة:

"فأَول هذه الدرجة أَن تشهد ذكر الله عَزَّ وجَلَّ إِياك قبل ذكرك له، وأَنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداءً قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدر خلقك ورزقك وعملك وإِحسانه إِليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئاً ألبتة، وذكرك سبحانه بالإٍِسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله، قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]

فجعلك أهلاً لما لم تكن أهلاً له قط، وإِنما هو الذي أَهلك بسابق ذكره، فلولا ذكره لك بكل جميل أَولاكه لم يكن لك إِليه سبيل، ومن الذي ذكرك سواه باليقظة حتى استيقظت وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام؟ ومن الذي ذكرك سواه بالتوبة حتى وفقك لها، وأَوقعها فى قلبك، وبعث دواعيك عليها، وأَحيى عزماتك الصادقة عليها، حتى تُبْتَ إِليه وأَقبلت عليه، فذقت حلاوة التوبة وبردها ولذاتها؟ ومن الذى ذكرك سواه بمحبته حتى هاجت من قلبك لواعجها وتوجهت نحوه سبحانه ركائبها، وعمر قلبك بمحبته بعد طول الخراب، وآنسك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب ومن تقرب إِليك أَولاً حتى تقربت إِليه، ثم أَثابك على هذا التقرب تقرباً آخر فصار التقرب منك محفوفاً بتقربين منه تعالى: تقرب بعده وتقرب قبله، والحب منك محفوفاً بحبين منه: حب قبله وحب بعده". اهـ

ص57، 58.

فليستحضر العبد، إن كان على رسم التوحيد، تلك الكرامة التي حرم منها فئام من البشر، فإن استقامة أمر الباطن على منهاج التوحيد، واستقامة أمر الظاهر على منهاج الشريعة: أعظم كرامة امتن الله، عز وجل، بها على عبد من عباده، فلا تعدلها نعمة دنيوية، فشرف جنس نعمة الدين على جنس نعمة الدنيا، كشرف جنس الروح على جنس البدن.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير