فقرب العبد من الرب، تبارك وتعالى، محفوف بقربين منه، جل وعلا، كما أن توبته محفوفة بتوبتين: فقد تاب الله، عز وجل، عليه قبل أن يتوب، فهيأ له أسباب التوبة ابتداء، ثم خلق فيه إرادة التوبة، وفعل التوبة، ثم امتن بقبولها انتهاء، فمنه، جل وعلا، الفضل أولا وآخرا، فهو الذي أعطى قوى الخير، وهو الذي أثاب عليها، ولو شاء لحجبها بمقتضى عدله وحكمته، فمن: "وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه"، فمن وجد خيرا فليحمد الله، عز وجل، ومن وجد غير ذلك، وقد كنى عنه كراهة ذكره صراحة فهو قسيم الخير بداهة، فلا يلومن إلا نفسه، فقد قدر الله، عز وجل، عليه ذلك، جزاء وفاقا، إذ المحل غير صالح لقبول آثار الوحي النافع، فقبل ضده من آثار الوسواس الإنسي والجني، إذ المحل غير قابل للضدين، والمحل غير قابل لأفعال التروك، إذ هو بأفعال الإيجاب مشغوف، فهو، كما تقدم مرارا، متحرك حساس يفتقر إلى الوحي الشرعي فهو المكمل لقواه العلمية، وإلى القدر الكوني فهو المكمل لقواه العملية.
فلا حول للعبد ولا قوة إلا بربه، جل وعلا، الذي خلقه وخلق فيه قوى الفعل، ولا تحول له عن الغي إلى الهدى إلا بوحي إلهه الشارع، فهو مفتقر إلى مقام الربوبية ليتحرك مطلقا، وهو مفتقر إلى مقام الألوهية: مقام الرسل عليهم السلام ليتحرك بقيد الشرع الذي أتى بتشريع كل طيب من الأقوال والأفعال والأعيان، وتحريم كل خبيث منها.
ويقول، رحمه الله، في معرض بيان نوعي الذكر:
"والذكر منك محفوفاً بذكرين: ذكر قبله وذكر بعده، فلولا سابق ذكره إِياك لم يكن من ذلك كله شيء، ولا وصل إِلى قلبك ذرة مما وصل إِليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإِنابة إِليه والتقرب إِليه، فهذه كلها آثار ذكره لك،
ثم إِنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأَنفاس، فله عليك فى كل طرفة عين ونفس نعم عديدة ذكرك بها قبل وجودك، وتعرف بها إِليك وتحبب بها إِليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء، وإِنما ذلك مجرد إِحسانه وفضله وجوده، إِذ هو الجواد المفضل المحسن لذاته لا لمعاوضة ولا لطلب جزاءٍ منك ولا لحاجة دعته إِلى ذلك كيف وهو الغني الحميد، فإِذا وصل إِليك أَدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها، فلتعظم عندك لذكره لك بها، فإِنه ما حقرك من ذكرك بإِحسانه وابتدأَك بمعروفه وتحبب إِليك بنعمته، هذا كله مع غناه عنك". اهـ
ص58.
فما أكرمك إله العالمين: تحببت إلى عبادك بالنعم الكونية والشرعية، مع عظم جفائهم في حقك، وحربهم لدينك ورسلك وأتباعهم، فهم القلة المستضعفة في كل عصر ومصر، سنة كونية جارية بابتلاء أهل الخير وأهل الشر: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)، فالاستفهام قد ضمن معنى الأمر، فعلة تلك الفتنة الكونية: إقامة الأمر الشرعي بالصبر، فيصبر أهل الخير على أذى أهل الشر، ويصبر أهل الشر عن شرهم، فالظالم إذا استحضر قدرة الرب، عز وجل، كف عن ظلمه، فصبر عن شهوة إيصال الأذى إلى المظلوم، فإن غرور القوة شهوة نفسانية لا حد لها، فلا يقيد إطلاقها إلا بقيد الشرع الآمر الناهي، والمظلوم إذا استحضر حكمة الرب، جل وعلا، سعى في رفع الظلم بالأسباب المشروعة، فإن عجز صبر احتسابا، فعجزه بعد بذل السبب المقدور: عجز لا يلام عليه، وإلا صح توجه اللوم إلى من أُمِر بالطيران فعجز عنه!.
ثم ذكر، رحمه الله، فوائد الذكر:
"من فوائد الذكر استجلاب ذكر الله سبحانه لعبده .......... والمقصود أَن شعور العبد وشهوده لذكر الله له يغنى قلبه ويسد فاقته، وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم، فإن الفقر من كل خير حاصل لهم، وما يظنون أَنه حاصل لهم من الغنى فهو من أَكبر أَسباب فقرهم". اهـ
بتصرف من: ص59.
فقد استدرجوا بأسباب الغنى الظاهر فهم بوصف الفقر الذي فروا منه متلبسون، إذ استغنوا بسبب فان يفتقر إلى من يربه، كسائر المربوبات الحادثات، فزين لهم العدول عن الرب، جل وعلا، إلى المربوب، ولو باشروا السبب مباشرة المتوكلين ما استحقوا الذم، وإنما استحقوه لقيام موجبه بهم إذ استغنوا بالفاني عن الباقي، فاستغنى صاحب الجاه بمنصب زائل، واستغنى صاحب المال بمال فان، واستغنى صاحب الجمال ببدن تالف، ولكل مستنده!، ولا يصلح حال فقير وكل إلى فقير مثله بداهة، فالافتقار إلى الأسباب على حد اعتقاد استقلال التأثير سواء كانت تلك الأسباب موضوعة لمسبباتها كالمال الذي وضع سببا لسد فاقة الأبدان، أو كانت غير موضوعة كما يقع من عمار المشاهد والأضرحة من اعتقاد تأثير المقبور في أحداث الكون المشهود على جهة الاستقلال أو المشاركة في التأثير لعظم جاهه، بزعمهم!، ذلك الافتقار هو الذريعة العظمى إلى انصراف القلب عن السجود لربه على حد الخضوع الكوني والانقياد الشرعي، وإن سجد البدن صورة ظاهرة، فالله، عز وجل، لا ينظر إلى الصور الظاهرة، وإنما ينظر إلى الحقائق الباطنة.
وذلك أيضا: أمر لم يسلم منه أحد في زماننا، فلكل نصيبه من الفقر، إذ قد تعلق قلبه نوع تعلق بالأسباب المشهودة على جهة الاستقلال، فليس الذم، كما تقدم، لاحقا من باشر السبب على حد التوكل، فإن إهمال السبب على هذا الوجه بزعم شهود مقام الربوبية: قدح في الشرع ونقص في العقل.
والله أعلى وأعلم.
¥