تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تسلسل المفعولات في الأزل، إذ ما أراد إلا إثبات أزلية صفات الأفعال الاختيارية تنزيها للرب، جل وعلا، عن حدوث وصف الكمال له بعد العدم، وعن تعطل ذاته من صفات الكمال حتى شاء الاتصاف بها، فهي على حد: قدم النوع وحدوث الأفراد، فنوع الصفة: قديم أزلي بأزلية ذات الباري، عز وجل، فهو فرع عنها، كما تقدم، فذلك اتصاف الله، عز وجل، بها: قوة فاعلة غير معطلة أزلا وأبدا، فلم يزل ربنا، عز وجل، ولا يزال، وسيزال إلى أبد الآبدين على كل شيء قدير، وبكل وصف كمال ذاتي ونعت كمال فعلي متصفا، وآحادها حادثة متعلقة بمشيئته الكونية النافذة، فإذا شاء فعل وإذا شاء لم يفعل، فليس في وصفه بصفات الأفعال الاختيارية ما يلزم منه إثبات كمال بعد نقص، إذ ذلك إنما يكون في عالم الشهادة التي تكتسب فيه الكمالات فرعا عن الأفعال، فالفعل في حق المربوب للوصف سابق، فيفعل ويستفيد كمالا كان عنه عريا، كأصحاب الصناعات التي يترقى الصناع في درجات الحذق بها بطول المعالجة وديمومة الممارسة، وأما في عالم الغيب الإلهي: فالوصف سابق للفعل، فالكمال أول أزلي، فلا يتصور فعل صادر عنه إلا على حد كمال القدرة وتمام الحكمة، فالله، عز وجل، قادر على أن يخلق غير هذا الكون أكوانا وأكوانا ولكن مقتضى حكمته أن يكون الخلق الحادث على أبدع وأحكم ما يكون، كما أشار إلى طرف من ذلك ابن تيمية، رحمه الله، في: "جامع الرسائل".

فلم يخلق ربنا خلقه على حد التجربة ليعلم من حاله ما كان عنه خافيا، فيندم على خلقه، كما تزعم يهود، ومن سار على طريقتهم من أصحاب البداء الذين يصفون الرب العليم بضد وصف كمال علمه المحيط من الجهل بالمآلات، فيبدو له ما لم يكن بالحسبان، ويظهر له ما كان عنه خافيا!. بل خلقه وقد علم أزلا، وكتب قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ما هو كائن منه، فلا يعزب عن علمه المحيط بكل كلي وجزئي، لا يعزب عن ذلك العلم مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.

فكيف يقاس من هذا وصفه من الكمال بمن ذلك وصفه من النقصان، فيعطل وصف الرب قياسا على وصف العبد؟!. فذلك من أعجب القياس صورة وأفسدة نتيجة.

وبقدر ظهور أوصاف كمال الرب، جل وعلا، للعبد، يكون استغناؤه بها، فله من ذلك الرزق الشرعي النافع حظ كما لبدنه من الرزق الكوني النافع حظ، فمن مقل ومن مكثر، ومن طلب رزقا فليسع في تحصيل أسبابه، فإن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة لمن سعى في تحصيل أرزاق الأبدان، ولا تمطر علوما وأعمالا ينتفع بها القلب ويصلح لمن سعى في تحصيل أرزاق الأديان، فلا يستطاع هذا العلم براحة الجسد، وشتان ثم شتان بين الجنسين: فالتباين بينهما على حد التبيان بين الروح العلوي الذي يغتذي على الوحي السماوي، والجسد السفلي الذي يغتذي على النبت الأرضي.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وليس هذا مختصاً بشهود أَوليته تعالى فقط بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب جل جلاله يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها.

فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أَخبر به أَعرف الخلق وأَعلمهم به الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إِليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدى الملك العزيز. فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إِليه معروض عليه مع أَوفى خاصته وأَوليائه، فيستحيي أَن يصعد إِليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك". اهـ

ص60.

فمشهد العلو من المشاهد التي فطرت عليها الخلائق: مكلفها وغير مكلفها، فالأبصار بالسماء معلقة، على حد الطلب والرجاء، والقلوب إلى الصمد عارجة على حد الذل والافتقار، فإن العمل إليه، عز وجل، صاعد، ولا يدري الفاعل أيقبل فيكون من الناجين مع ما فيه من دخل وتخليط لا يسلم منه إلا الصديقون الذين تجردوا من الحظوظ العاجلة، وقليل ما هم، فالمفتونون برسومهم وأعمالهم أضعاف أضعافهم، والله، عز وجل، رحيم بكل مؤمن رحمن بكل موجود، يغفر الذنب ويقبل التوب، فيتجاوز عن التخليط السابق إن شفعه الفاعل بالتخليص اللاحق، فيصير من أهل: (يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، فمن كان ذلك وصف جماله فحري

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير