تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بك أن تحسن الظن به، فإنه ما خلقك ليعذبك بالآصار ويقيدك بالأغلال، وإنما خلقك ليبتليك بالتكليف فيستخرج به خبث فؤادك، فهو الكير الناصح لمادة الإخلاص والإنابة، بناره تزول شوائب الشبهات والشهوات، فتصلح مادة القلب العلمية تصورا صحيحا لكمالات الرب، جل وعلا، الذاتية والفعلية، وكمالات حججه الرسالية التي بعث بها أفضل البرية مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس بين يديه حجة، فهو الحكم العدل الذي قطع بحججه الباهرات كل المعاذير، وأقام على المكلفين شهودا من ذواتهم، فلا يظلم أحدا، ولا يبخس حقا لكمال غناه، جل وعلا، فالفقير، كما تقدم، هو الذي يضطر إلى ظلم غيره استكمالا لأسباب الغنى ولو بقهر غيره عليها ظلما وعدوانا، فما حاجة من بيده أسباب الكون إلى أن يظلم خلقا هو الذي أوجدهم ولو شاء لأعدمهم، وأعطاهم ولو شاء لمنعهم، فلا يدري الفاعل أيقبل أم يرد بمقتضى عدله، عز وجل، فيطرح في وجه الفاعل إذ الرب، جل وعلا، أغنى الشركاء. فمحط الفائدة: أن توحده في ربوبيته فذلك فعله وأن توحده في ألوهيته فذلك فعلك، فتوحيده بالعلم بذاته وأوصافه وأفعاله ذريعة إلى توحيده بالعمل بقلبك ولسانك وجوارحك.

ومن مشاهد العلو:

" أن يشهد نزول الأَمر والمراسيم الإِلهية إِلى أَقطار العوالم كل وقت بأَنواع التدبير والمصرف - من الإِماتة والإِحياءِ والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاءِ والمنع وكشف البلاءِ وإِرساله وتقلب الدول ومداولة الأَيام بين الناس- إِلى غير ذلك من التصرف في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه، فمراسمه نافذة كما يشاءُ: {يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ} [السجدة: 5] فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به". اهـ

ص60.

فمن مشاهده: شهود نزول الأمر الكوني بالتصريف والأمر الإلهي بالتشريع: فالعلو: علو ذات وأوصاف وأفعال، والنزول: نزول أقدار وأحكام، فحظك منها: التأله بالعلم النازل، والتأله بالعمل الصاعد، فما جاءك من خبر الوحي النازل فصدقه، وما جاءك من التكليف فامتثله فلا يصعد منك إليه ما يرضاه كونا، وإن نزل بك من مقاديره ما لا ترضاه طبعا، فارض، فإن فاتك مقام الرضا، فلا يفوتنك مقام الصبر، وما أعسر وأمر بدايته، وما أيسر وألذ نهايته، فمع كل بلاء صبر، ومع كل عسر يسر، وإنما الشأن: أن يلهم العبد: صبرا ساعة نزول المقدور فلا ينطق اللسان بالهجر ولا يتشح القلب بالسخط، ولا يلهم ذلك المقام الشريف إلا من اصطفاه الله، عز وجل، بشرف الوقوف عند حدود التكليف، فلكل حدث طاعة، فحدث النعمة: شكر، وحدث النقمة صبر، و: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[12 - 09 - 2009, 07:45 ص]ـ

ومن تلك المشاهد الشريفة:

شهود علم الرب، جل وعلا، المحيط، الذي وسع كل المعلومات علما سواء أكانت ممكنات يتصور العقل وقوعها على حد الجواز أم محالات يفرضها العقل فرضا، فالعلم قد تعلق بكل الاحتمالات، بخلاف القدرة التي لا تتعلق إلا بالممكنات، والعلم قد تعلق بكل الموجودات: كلية كانت أو جزئية، فعلمه قد عم كل موجود على حد التفصيل لجواهر الذات وأعراض الصفات: فعلمه بالأعيان والأفعال: علم كوني محيط، فعنه تصدر كلماته الكونيات النافذات، وعلمه بالشرائع والأحكام: علم شرعي محكم، فعنه تصدر كلماته الشرعيات الآمرات، فعن علمه الكوني صدر وحيه الكوني: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا)، و: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)، وعن علمه الشرعي صدر وحيه الشرعي: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ).

يقول ابن القيم رحمه الله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير