تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأَرض ولا في السماوات ولا في قرار البحار ولا تحت أَطباق الجبال بل أَحاط بذلك علمه علماً تفصيلياً ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإِرادته وجميع أَحواله وعزماته وجوارحه علم أَن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإِرادته وجميع أَحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية لا يخفى عليه منها شيء". اهـ

ص60، 61.

فقوله رحمه الله: "ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره": إشارة لطيفة إلى مناط الانتفاع بذلك العلم، فالعلم، وإن كان مرادا لذاته، فتحصيله في حد ذاته عبادة، إلا أنه مقدمة تصورية لا بد لها من نتيجة عملية، وإلا صارت محض ترف عقلي جدلي، على حد حكمة أمة اليونان العقيمة، التي أهملت الجانب العملي الاستقرائي في الطبيعيات، وأعملت الجانب النظري الاستنباطي، فصارت أحكامها محض ظنون لا مستند لها من الواقع المشهود، فلما استقرت عندهم تلك المفاهيم العقيمة في الطبيعيات عدوها بالقياس العقلي الفاسد إلى الإلهيات، فكان الفساد أعظم، إذ شأن الإلهيات أعظم، والطرق إلى تحصيلها مسدودة إلا طريق النبوات، فهي من الخبريات التي لا تسنبط إذ لا يدركها العقل إلا بتوقيف من الشرع، كسائر الأخبار الدينية التوقيفية، بل الدنيوية، فكل غيب سواء أكان دينيا أم دنيويا لا يتلقى بالقبول إلا إذا جاء من طريق رجاله ثقات عدول مأمونون على نقل الأخبار، فكيف بأعظم الأخبار التي هي مراد كل العقلاء، وحاجة كل ذوي الألباب، فحاجة كل الأمم إلى معرفة أسماء وأوصاف المعبود، وإن كان باطلا: أعظم الحاجات العلمية، فإما أن تصح علومهم وإراداتهم في معرفة طريق الهداية والسير عليه: سير الراسخين في العلم وإما أن تفسد فتضطرب الصورة العلمية وبقدر الفساد في التلقي في هذا الباب بفساد المصادر التي لا تكون غالبا إلا نقلا باطلا أو عقلا فاسدا يكون فساد الصورة العلمية والعكس صحيح، فالأمر مطرد منعكس.

فالنبوة هي الطريق الوحيد المأمون الذي يمكن السير عليه في هذا الباب، فلا أصح من علوم الأنبياء عليهم السلام أعلم الناس بالرب، عز وجل، فعليهم نزل الوحي الشارح لأوصاف كماله ونعوت جلاله، وأوفرهم نصيبا من ذلك الباب الجليل: خاتم الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو أكملهم مقالا وحالا، فعليه نزل من الوحي المفصل ما أزال إجمال ما تقدم من الرسالات، وإن كان الأصل التوحيدي واحدا، فذلك دين الرسل عليهم السلام الجامع.

وحاجتهم إلى معرفة شرع يتألهون به إلى المعبود: أعظم الحاجات العملية، فتلك ثمرة العلم الأول، فحاجة القلب الحساس المتحرك إلى العمل لا تقل عن حاجته إلى العلم الأول، بل هي أعظم، فالناظر في عالم الشهادة يرى فئاما من البشر يعملون ويتالهون بلا علم، فلسان حالهم: سد فاقة القلب وضرورته ولو بغذاء فاسد لا يزيده إلا ضعفا ومرضا بل هو سبب رئيس في موته وإن كان جسد صاحبه معدودا في الأحياء، فالقلب إناء ينضح على الجوارح، وكل إناء بما فيه ينضح، فإن صحت علومه وأعماله، فوحد المعبود بأسمائه وصفاته، وآمن بالملائكة المرسلين بالوحي الشرعي إلى الأنبياء المبلغين، فذلك حد الإيمان بالرسالة، وآمن بالكتب الهاديات أخبارا وأحكاما، وآمن بالقدر النازل بمقتضى الكلمات الكونيات النافذة، ثم شيد على ذلك الأساس العلمي المتين: صرحا عمليا شامخا من أعمال القلوب الخفية التي بها يظهر التفاوت بين أقدار العباد، فلا يعرف البشر أقدارها وإن ظهرت لهم من أماراتها ما يعرف به صدق الدعوى من كذبها، لا سيما في النوازل والشدائد، التي تبلى فيها السرائر، وإنما يعرف ذلك: رب البشر الذي أحاط بكل شيء علما: قدرا ووصفا.

ثم نضح ذلك الباطن على الظاهر: صحيح الأعمال على رسم الرسالات، مصدر التلقي الوحيد له في العلميات والعمليات، فلا إحداث لمقالة علمية ولا ابتداع لعبادة عملية. فإذا تحقق له من صالح العمل الظاهر ما يكافئ صحيح العلم الباطن، فقد استكمل صناعة الفلك المنجي له من موج كالجبال من الشبهات والشهوات، فقد حصن باطنه من الشبهات بالعلم النافع، وحصن ظاهره من الشهوات بالعمل الصالح.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير