تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم ذيل بما يؤكد كمال قدرته الربانية في معرض إبطال ألوهية غيره، فلا يسأل عما يفعل لتمام قدرته وحكمته، فأفعاله لا يعتريها العجز أو السفه، وهم يسألون على حد طباق السلب، فلهم ضد الحكم باتصافهم بضد الوصف، فلا يسأل لقدرته وحكمته وهم يسألون لكونهم مربوبين تجري عليهم أحكام التكليف، ويعتريهم من العجز ما يرفع الحرج، وذلك معنى لا يتصور في حق الرب القدير، جل وعلا، ويعتريهم من السفه ما هو جبلة لا يؤاخذ به العبد إلا على قدر ما معه من عقل، أو معصية فتجري أفعالهم على غير سنن الحكمة الشرعية فيلحقهم التفريط الموجب للسؤال، وذلك أيضا، مما لا يتصور في حق الرب جل وعلا.

فالمسألة قد تجري على حد الطرد والعكس: فمن اتصف بكمال القدرة والحكمة فله وصف الألوهية الصحيحة طردا، ومن اتصف بنقصهما فليس له منها نصيب عكسا، فالحكم مطرد منعكس دائر مع علته: القدرة النافذة والحكمة البالغة طردا وعكسا.

والثانية: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ):

فلم يتخذ ولدا لتمام غناه عن الأنيس أو العاضد، فاستخلافه للبشر: استخلاف ابتلاء فهو الرب غير الغائب أو الآفل عن خلقه، فبكلماته الكونية يدبرهم، وبكلماته الشرعية يبتليهم.

وما كان معه من إله، إذ تعدد الآلهة مظنة فساد الكون على التفصيل المتقدم، فلو كان ذلك كائنا، من باب الفرض الذهني لمحال ذاتي تنزلا مع الخصم في معرض الحجاج العقلي، لاكتفى كل ملك بمملكته، فتتعدد النواميس بتعدد الآلهة، وذلك، كما تقدم، مظنة الفساد، أو لاشتعل الصراع بينهم، على ما اطرد من سنة التدافع، فظهر من ذلك أيضا: فساد عظيم، فالضعيف يقهره القوي، والقوي يقهره الأقوى ............. إلخ، وذلك تسلسل ممتنع شرعا وعقلا وحسا، فلا بد من قوي له من كمال القوة والغلبة ما يصير كل قوي لقوته مقهورا، ولأمره منقادا مأمورا، وهو الاحتمال الثالث الذي حذف لدلالة المذكور عليه، فهو من العلم البدهي الضروري الذي لا ينكره إلا من فسدت فطرته أو إرادته فجحد الرب المعبود جل وعلا، وحاله من الفقر والاضطرار شاهد بضد دعواه، فلا بد له من غني مختار تام الإرادة يرب أمره ويدبر شأنه، وبضدها تتميز الأشياء فبالنقص والفقر البشري يدرك الكمال والغنى الرباني.

ومع تلك القدرة القاهرة لكل ملوك الأرض: علم محيط فهو: عالم الغيب والشهادة، والعلم دليل الحكمة لزوما، على ما اطرد مرارا من تلازم القدرة والحكمة في هذا الباب الجليل، فحسن أن يذيل بالتنزيه والتسبيح، فتعالى عما يشركون من آلهة الباطل التي ليس لها من أوصاف الربوبية ما يؤهلها لمنصب الألوهية ولو على حد المشاركة أو المعاونة.

ويقول رحمه الله في معرض الكلام على إنكار المشركين لمقام الألوهية مع إقرارهم بمقام الربوبية:

"وكذلك كان عباد الأصنام يقرون به وينكرون توحيد الإلهية ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً} [ص: 5]، مع اعترافهم بأن الله وحده هو الخالق لهم وللسماوات والأرض وما بينهما، وأنه المنفرد بملك ذلك كله، فأرسل الله تعالى الرسل يذكر بما فى فطرهم الإقرار به من توحيده وحده لا شريك له وأنهم لو رجعوا إِلى فطرهم وعقولهم لدلتهم على امتناع إله آخر معه واستحالته وبطلانه". اهـ

ص62.

فبعث الرسل لإحياء ما اندرس من فطرة التوحيد في القلوب، فلو رجعوا إلى قياس العقل الصريح ومقتضى الفطرة الأولى لعلموا أنه هو الإله الشارع فرعا عن كونه الرب الخالق.

ثم شرع، رحمه الله، في بيان مشهد الألوهية فقال:

"فمشهد الأُلوهية هو مشهد الحنفاء، وهو مشهد جامع للأَسماء والصفات، وحظ العباد منه بحسب حظهم من معرفة الأسماء والصفات، ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله جل جلاله، فإِن هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف الأَسماءُ الحسنى كلها إليه فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أَسماء الله، ولا يقال: الله من أَسماءِ الرحمن، قال الله تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] ". اهـ

ص62.

فبقدر العلم بأسماء الرب، عز وجل، وأوصافه، علم الانتفاع العملي لا الترف العقلي، بقدره يكون صلاح العبد باطنا بالعلوم الإلهية النافعة، وظاهرا بالتكليفات الشرعية الصالحة.

فقلبه صحيح العلم أصلا، صحيح العمل فرعا، فإراداته توافق إرادة الشرع الحاكم، فلا يريد إلا ما أراده الرب، جل وعلا، شرعا، قد استسلم لبارئه على حد: الحب رغبة والذل رهبة، فذلك صلاح القلب بالعلم والعمل.

وجوارحه قد استقامت على أمر الشرع فرعا عن استقامة باطنه، فهي بوظائف العبودية مشغولة، وبمقتضى التكليف معمورة.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه، فإنما هو مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه لمشهد الإِلهية وقام بحقه من التعبد الذى هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تم له غناه بالإِله الحق، وصار من أَغنى العباد، ولسان حال مثل هذا يقول:

غنيت بلا مال عن الناس كلهم ******* وإِن الغنى العالي عن الشيء لا به

فياله من غنى ما أَعظم خطره وأَجل قدره، تضاءَلت دونه الممالك فما دونها، وصارت بالنسبة إِليه كالظل من الحامل له، والطيف الموافي فى المنام الذي يأتى به حديث النفس ويطرده الانتباه من النوم". اهـ

فمن قطع طمعه في الموجودات استغنى عنها بموجِدها، عز وجل، فله منه خير عوض عن عرض فانٍ، وإنما يصح ذلك بصحة التصور الذهني لحقيقة هذه الدنيا، فهي لا تعدو كونها دار ابتلاء قد جرت أحداثها وفق سنن كونية محكمة، فابتلي العباد بإقامة سنن الشرع الحاكم فيها.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير