تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[14 - 09 - 2009, 07:52 ص]ـ

وأما الدرجة الثالثة من درجات الغنى فهي:

"الفوز بوجوده جل وعلا".

وتلك أيضا من الصور العلمية الرفيعة الشأن فلا يفوز بها إلا من تطهر قلبه من أدناس الحلول والاتحاد فليس الفوز بوجود الله، عز وجل، هو حلوله في ذات الفائز، أو اتحاده بناسوته الفاني، فإن ذلك قدح في ذات وصفات المألوه المحبوب، جل وعلا، وما أتي من أتي في هذا الباب، إلا لتجاوزٍ وسوءِ أدبٍ مع الباري، عز وجل، إذ غاب عنه أنه مرهوب كما أنه محبوب، فلو وحده بصفات جلاله، لعلم أنه ليس كمثله شيء، فهو المتصف بأجناس العلو: الذاتي والوصفي، فهو العلي شأنا، العلي قهرا، فذلك فجر التوحيد الذي يطلع في سماء القلب برسم النبوة: نبوة: الرب المعبود والعبد المربوب، فبينهما من القدر الفارق ما بين الباقي والفاني، فلا يتصور اختلاطهما إلا مختلط!، إذ فيه تسوية بين مفترقين، بل بين أعظم مفترقين، كما تقدم في أكثر من مناسبة، فالرب، جل وعلا، قد اتصف بكماله الأزلي الأبدي، والعبد قد اتصف بضد ذلك من النقص الذاتي، فهو من العدم آت وإلى البِلى راحل، ومن أعراض النقص غير سالم، فآلام وأمراض، وموتة صغرى تذكر صاحبها بالموتة الكبرى، ولغوب يذكر صاحبه بكمال الرب، جل وعلا، فلا يمسه اللغوب وإن شاء فعل أعظم الأمور، فبأوامره التكوينية النافذة تكون أمور كونه الباهرات فما هي إلا: كن، فيكون الكائن على حد التعقيب بلا تراخ، كما سبق في العلم الأزلي الأول، فيأتي المقدور على قدر ما كتب في اللوح المحفوظ. فشتان الرب والعبد، وإن وسع القلب الصورة العلمية على حد التقريب، فإنه لا يتصور أن يسع الحقيقة الإلهية على حد التحقيق، فليس له من العلم الإلهي إلا المعاني الذهنية، لا الحقائق الخارجية، فكنه كمال ذات الباري، عز وجل، وأسمائه وصفاته وأفعاله، لا تحيط به المدارك البشرية، فليس ذلك داخلا تحت حد قدرته ليكلف بتحصيله، إذ القدرة مناط التكليف، والشرع والعقل يشهدان بأن إحاطة المخلوق المربوب ناقص الآلات والمدارك بأوصاف الرب، جل وعلا، التي قد بلغت منتهى الكمال، تلك الإحاطة: أمر محال لذاته. وإنما حظ العباد من ذلك الباب الجليل: إدراك معاني الكمال دون حقائق الذات والصفات، كما تقدم، فذلك ما امتن به الرب، جل وعلا، على عباده في دار الابتلاء، فحكمته قد اقتضت أن يغيب عن عباده، فهو أعظم وأجل الغيوب، دون أن يغيبوا عنه، فهو الحافظ لهم في كل شأن، فتتوالى كلماته الكونيات إيجادا وعناية بهم فذلك من جماله، وتتوالى كلماته الكونيات إعداما وابتلاء لهم فذلك من جلاله، فيعافي بجماله ويبتلي بجلاله، يهب الولد إذا شاء فهو واهب النعم، وينزعه إذا شاء فهو قابض العواري ومسترد الودائع، ركب الروح في الجسد بكلمات الملَك المأمور، فجاء المولود وفق ما شاء الملِك الآمر، أعطى كل شيء خلقه ثم هدى: هداية الكون فبها تقوم الأبدان بتحصيل أسباب الصلاح والبقاء، وهداية الشرع فبها تقوم الأرواح، فبعث الرسل مبشرين ومنذرين، ولو شاء لترك العباد حيارى ضالين، ولكنه رجح جانب الوجود في إمكان بعث الرسل على جانب العدم، فهو الموجب، جل وعلا، فلا يوجب أحد شيئا عليه، وإنما هو الذي كتب ذلك على نفسه بمقتضى قدرته وحكمته ورحمته، فبعثهم بأكمل العلوم الإلهية والأعمال التكليفية لتغتذي الأرواح على طيب الشرائع، كما تغتذى الأبدان على طيب المطاعم، فالرسل، عليهم السلام، معدن كل طيب، فـ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، فكلوا من الطيبات لتصح الأبدان واعملوا صالحا لتصح الأرواح، فذلك لازم النعمة الكونية، فكما رزق العباد طيب المطعم فذلك لهم على حد التفضل والامتنان، فعليهم تحصيل العلم المصحح للعقود والعمل المصلح للجوارح على حد التكليف، فإزاء كل منة ربانية: تكليف إلهي. فبالأول قامت الأبدان، وبالثاني: قامت الأرواح، فخالق البدن هو المستحق لتمام تأله الروح، فليس من خلق فبرأ فصور كمن لم يخلق شيئا بل هو على النقيض من ذلك: مخلوق مربوب، فهو عبد أسير بقيد التكليف فليس له شيء من الخلق والتدبير ليصح في الأذهان صرف جنس التأله له،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير