فليس ذلك إلا للرب الخالق المتصف بكل كمال، الموجِد بقدرته المدبر بحكمته، فلا شريك له في ألوهيته فرعا عن انتفاء الشراكة له في ربوبيته. فذلك القياس العقلي الصريح ذريعة إلى العمل القلبي الصحيح، فتنتفع به الروح فلا يصير محض قياس عقلي رياضي جامد لا حياة فيه تبعث الهمم إلى تحصيل معالي الأمور: علوما وأعمالا.
ويستنهض ابن القيم، رحمه الله، الهمم فيقول:
"فإِذا كان أَثر من آثار صفات الذات أَو صفات الأَفعال يغني القلب والنفس فما ظنك بما تكاشف به الأَرواح من أَنوار قدس الذات المتصفة بالجلال والإكرام فهذا غنى لا يناله الوصف ولا يدخل تحت الشرح فيستغني العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم، فيا لك من فقر ينقضي ومن غنى يدوم ومن عيش أَلذ من المنى، فلا تستعجز نفسك عن البلوغ إِلى هذا المقام فبينك وبينه صدق الطلب، وإِنما هي عزمة صادقة ونهضة حر ممن لنفسه عنده قدر وقيمة يغار عليها أَن يبيعها بالدون.
وقد جاءَ فى أثر إلهي يقول الله عَزَّ وجَلَّ: (ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُكَ لِنَفْسِي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب ابن آدم اطلبني تجدني فَإِن وجدتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيءٍ، وَإِنْ فُتَّكَ فَاتَكَ كُل شَيءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ". اهـ
ص63.
فتوكل على القدير، وإياك أن تكل الأمر إلى قواك وإن عظمت، واسأله المعونة والتيسير، فـ: رب أعن ويسر، لينهض القلب بالعلم الإلهي النافع، فتعمر الجوارح بالعمل الصالح، على حد التعبد الاختياري للرب عز وجل، وليس ذلك إلا لمن ترفع عن شوائب الدنيا، فوفاؤها قليل والشريك فيها خسيس تورثك شراكته: شحا ودنوا في الهمة، إذ الدنيا ضئيلة القدر فالمشاحة في امتلاكها أمر كائن لا محالة، بخلاف الآخرة فإنها قد اتسعت لكل السائرين، فالتنافس في تحصيلها عين المحمدة، فمن غار على نفسه أن يفنيها في تحصيل مال أو جاه زائل، فشغلها بادخار الباقي عن جمع الفاني، فهي له منقادة مقهورة، قد ألزمها أحكام الملة، وجمرها على ثغور النحلة، فهي في رباط إلى يوم اللقاء، فمن طاعة إلى طاعة، تترقى في معاريج الكمال العلمي والعملي بما وهب الرب الكريم العلي، فمن رُزِق جنس ذلك، ولو كان مخلطا مقصرا، قوالا غير فعال، فلا ييأس من رحمة الله، عز وجل، فعسى أن يرزقه نية تجعل القول المنطوق فعلا موجودا، وعسى الله أن يرزقه مستمعا ينتفع بكلماته فيصير له من وصف: (أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس): نصيب. فلا يحقرن العاقل نفسه فإن لكل امرئ أمورا اختصه الله، عز وجل، بها، لا يحسنها إلا هو، وإن خفيت عليه، فليفتش عنها، وليجعلها دليله الهادي إلى رضا الرب العالي، فمن الناس من اختص بصلاة، ومنهم من اختص بإنفاق، ومنهم من اختص بصيام، ومنهم من غلبت قوته العلمية قوته العملية، ومنهم من غلبت قوته العملية قوته العلمية ومنهم ومنهم فتفاوت قواهم ومداركهم العقلية والبدنية أمر لا يحصيه إلا الباري، عز وجل، الذي خلقهم فهو بجواهر ذواتهم ودقائق أحوالهم أعلم.
ومن طرق الباب، على حد الدوام، فهو إلى الدخول أقرب، فينخلع القلب وينطرح بين يدي سيده، اعترافا بالمنة إذ خصه بالاصطفاء والتقريب، ولو شاء لأبعده وطرده فلا ولي له ولا شفيع.
فالكيسَ الكيسَ بالبحث في مكنونات النفس عن سبب تنجو به من علم يصلح القلب أو عمل يعمر الجوارح أو خبيئة صالحة تنفع صاحبها يوم تبلى السرائر.
و: "من طلب الله بصدق وجده، ومن وجده أغناه وجوده عن كل شيء، فأَصبح حراً فى غنى ومهابة على وجهه أَنواره وضياؤه، وإِن فاته مولاه جل جلاله تباعد ما يرجو وطال عناؤه". اهـ
فبتمام الغنى بالله، عز وجل، تحصل المحبة والهيبة في قلوب البشر، إذ قد ترفع صاحبه عما بأيديهم من سقط المتاع، فلا حاجة له في دنياهم، بل هم إلى ما عنده أحوج، فمهابته من مهابة سيده، فهو الغني بلا مال، الوجيه بلا سلطان، المهاب بلا سيف قاهر فليس له من وصف الظلم والعدوان ما يجعله كسائر الطغاة المعظمين على حد التقية لا المهابة النقية: مهابة المحبوب الذي تألفه القلوب وتهابه، فبألفته تجتمع القلوب وبهيبته تحد الحدود فلا يتجاوز أحد حده بزعم المحبة أو غلبة الوجد فإن ذلك من سوء الأدب، وذلك أمر يجب في حق الرب، جل وعلا، من باب أولى.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"ومن وصل إِلى هذا الغنى قرت به كل عين لأنه قد قرت عينه بالله والفوز بوجوده، ومن لم يصل إِليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَشَتَّتَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ، ومَنْ أَصْبَحَ وَالآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ، وَجَمَعَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِى رَاغِمَةٌ، وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ خَيْرٍ إِليهِ أَسْرَعُ"، فهذا هو الفقر الحقيقي والغنى الحقيقي، وإِذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أَكبر همه فكيف من كان الله عز وجل أكبر همه، فهذا من باب التنبيه والأَولى". اهـ
ص64.
فالله، عز وجل، هو وحده المراد لذاته، فهو أعظم المرادات، وبقدر تلبس العبد بتلك الغاية الشريف، فهو بمراضي ربه عن مساخطه مشغول، بقدر ذلك: يتحقق له الغنى الحقيقي لا غنى الأعراض الوهمي الذي تنعم به الصور الظاهرة وتعذب فيه الحقائق الباطنة بإعراضها عمن بيده أسباب الفرح والحزن، الأنس والوحشة، فالمقبل عليه في فرح عارم وأنس شديد، والمعرض عنه، على النقيض من ذلك فحزن دائم وإن وجد أسباب السعادة الظاهرة، ووحشة دائمة إذ كيف يأنس بالمخلوق الفاني من أعرض عن الرب الباقي؟!. فذلك مما لا يشهد له نقل أو عقل أو حس.
والله أعلى وأعلم.
¥