تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[15 - 09 - 2009, 09:44 ص]ـ

ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى:

فقال:

"قال يحيى بن معاذ: الفقر أن لا تستغني بشيء غير الله ورسمه عدم الأَسباب كلها. قلت: يريد عدمها فى الاعتماد عليها والطمأْنينة بها، بل تصير عدماً بالنسبة إِلى سبق مسببها بالأوَلية، وتفرده بالأَزلية". اهـ

ص64.

فليس المراد تعطيل الأسباب على نحو يقدح في الشرع المنزل والعقل المحقق، على نحو ما ذهب إليه أهل الجبر المعيب الذي شنع به العقلاء عليهم، وشنع به المغرضون على دين الإسلام بإبراز تلك الصورة الشوهاء على أنها دين الإسلام، فهو دين: غير واقعي يهمل الأسباب المشهودة ويعلق القلوب بالمعجزات والكرامات والخوارق، مع أنها استثناء لا تؤصل عليه القواعد الكلية، وذلك ما وقعت فيه الديانات السابقة التي جعلت الخوارق والكرامات والفراسات الرياضية دليلا على صحة المقالة وإن لم يكن لها مستند من شرع منزل، وربما من العقل أو الحس فهي حديث خرافة يروج له برسم السر الكهنوتي، فهو أمر لا يدركه إلا خواص أهل الملة، مع كونه الحجة القائمة على العباد، والحجة إنما تقام بأمر بين لا إجمال فيه، فضلا عن أن يكون سرا لا تدركه العقول لخروجه عن قانون العقل الصريح فهو من المحال الذاتي الذي لا تأتي به نبوة، إذ النبوة مكملة للعقل لا ناقضة لأصوله التي تدرك بها شرائع الأنبياء، فكيف تأتي الشريعة بما ينقض المحل القابل لها، وبأي شيء تتعلق إن أبطلت آداة التكليف؟!.

قال ابن القيم رحمه الله:

"وسئل محمد بن عبد الله الفرغاني عن الافتقار إِلى الله تعالى والاستغناء به فقال: إِذا صح الافتقار إِلى الله تعالى صح الاستغناءُ به، وإذا صح الاستغناءُ به صح الافتقار إِليه، فلا يقال أَيهما أَكمل لأَنه لا يتم أَحدهما إِلا بالآخر.

قلت، (أي: ابن القيم رحمه الله): الاستغناءُ بالله هو عين الفقر إِليه، وهما عبارتان عن معنى واحد، لأَن كمال الغنى به هو كمال عبوديته، وحقيقة العبودية كمال الافتقار إِليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به، فليس هنا شيئان يطلب تفضيل أَحدهما على الآخر، وإِنما يتوهم كونهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقر إِليه، فهي حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى: "غنى" بالنسبة إِلى فراغه عن الموجودات الفانية، و: "فقراً" بالنسبة إِلى قصر همته وجمعها على الله عز وجل، فهي همة سافرت عن شيء واتصلت بغيره، فسفرها عن الغير غنى، وسفرها إِلى الله فقر، فإِذا وصلت إِليه استغنت به بكمال فقرها إِليه، إذ يصير لها بعد الوصول فقر آخر غير فقرها الأول، وإِنما يكمل فقرها بهذا الوصول". اهـ

ص64، 65.

فذلك معنى لطيف شريف، لا يدرك شرفه إلا من باشره، ولو في أمر دقيق، فكثيرا ما يضطر المكلف فتنقطع به الأسباب، ولو في أمر يسير، فيجد قلبه قد توجه بغير اختيار منه إلى قوة عليا قادرة على رفع إشكاله إذ لم يبلغ درجة الابتلاء بمعناه المعهود، فالعبد مفتقر إلى ربه، عز وجل، في دق أمره وجله، مفتقر إليه في جلب مصالحه، مفتقر إليه في دفع المفاسد، مفتقر إليه حتى في تحصيل مرغوباته، مفتقر إليه ليطعمه ويسقيه ويُنْكِحَه ما يشتهي من طيب تلك الملذوذات، مفتقر إليه في تفريج الكربة وكشف الغمة من باب أولى، مفتقر إليه ليثبت عند الصدمة الأولى، فكم من قلوب حوت من علم القدر ما حوت، فإذا جاء وقت العمل: نكلت وانقلبت على الأعقاب جزاء وفاقا، إذ اطلع الله، عز وجل، على مكنونها، فعلم فيها دخلا، فابتلاها عدلا بالجزع كما تفضل على قلوب أخرى بالثبات، فالخلق، كما تقدم مرارا، يتقلبون في أحكام فضله وعدله، فلا حول ولا قوة إلا بالله في أزمنة الرخاء والسعة لتحصيل الطيبات، فلن يباشرها العبد ولن تنتفع به قوى حسه إلا إذا شاء الله، عز وجل، ذلك فخلق فيها طاقة الحس والانتفاع، فلا تكفي مباشرة السبب لحصول المسبَّب، بل إن لم يشأ رب الأسباب الذي تفتقر كل الأسباب إليه إيجادا وإجراء وفق سننه الكونية النافذة، إن لم يشأ حصول المسبَّب مع استيفاء شروطه وانتفاء موانعه، فلن يقع، وإن اجتمع أهل الأرض على إيقاعه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير