تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهو، من جهة أخرى، مفتقر إليه في أزمنة الرخاء والسعة ليؤدي شكر تلك الطيبات، فإن النعمة الشرعية كالنعمة الكونية: كلاهما رزق وعطية من رب البرية، جل وعلا، فكم أعطي بشر سعة في الدنيا، ولم يعطوا سعة في الدين الذي يسوس الدنيا فلا يطغى صاحبها، إذ النعمة الكونية بمعزل عن الشرع الحاكم مظنة الفجور والطغيان بتجاوز حدود الشرع، حدود: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، فالعبد في حال النعمة مفتقر إلى مقامي: رب أعن ويسر. فأعن بالأسباب وسعة الأرزاق، ويسر من العلم بأحكام الشرع والعمل بمقتضاه، فأوجد في القلوب إرادة الخير، وأوجد في النفوس سخاوة تذهب الشح لتجود النفس، وأوجد في الجوارح صالح الطاعات التي تشفي تلك النفوس المعتلة من أدواء البخل والحرص والتكالب على خسيس الفانية والإعراض عن نفيس الباقية، ويسر بتقريب سبل الخير، فكم أوتي بشر من أسباب الخير من غنى وسعة رزق، وأوتوا إرادات صالحة، ولم تتيسر لهم أسباب الخير، إذ شاء الرب، جل وعلا، بحكمته الباهرة، أن يوصد أبواب الخير دونهم، لتظهر قدرته النافذة، فلن يطيع الطائع وإن كان له من الأسباب الكونية والأخلاق الشرعية ما يوجب وقوع الطاعة، إلا بإذنه، وذلك مما يظهر به قهر الجبار، عز وجل، فالأسباب بيده، والقلوب بين أصبعيه، والسبل موصدة إلا إذا شاء تذليلها للسائرين إليه، فلن يسير إليه إلا من اصطفاه بعلمه وحكمته، وأمده بأسباب السير بمقتضى قدرته، فإراداتنا لإرادته تابعة، وقدرتنا من قدرته صادرة، بكلمته التكوينية تنهض الهمم والأبدان إلى تحصيل الطاعات فليس لنا منها إلا التعبد بمباشرة الأسباب، والله يغفر دخل النفوس ويتخاوز عن مكنون الصدور من حظوظ النفوس الخفية التي قطعت طريق من قطعت من السائرين إلى الله، عز وجل، وإحسان الظن بالكريم، عز وجل، ولو كان العبد مخلطا، طالما كان بسبب من الطاعة آخذا، إحسان الظن به على تلك الحال هو الباعث على تحمل آلام هذه الحياة، ولك أن تتخيل حال من خفيت عليه تلك المعاني الشريفات التي لا تتلقى، كسائر أحكام القلوب والجوارح، إلا من مشكاة النبوات، كيف تكون حياته إذ تقلب به الدهر، بل ولو استقام!، وليس ذلك بواقع فهو عين المحال إذ العباد مبتلون بالشرع والقدر شاءوا أو أبوا، وإنما الأمر من باب الفرض العقلي المحض، فلو فرض جدلا أن زيدا من البشر قد استقام حاله فلم يبتل من مبدئه إلى منتهاه إلا بالنعمة!، وهو مع ذلك معرض عن الشرع غافل عن الوحي، ليس له من علوم وأعمال النبوات نصيب، كيف يكون حال من هذا وصفه؟!، فكيف والبلاء واقع لا محالة، ولو بالموت في آخر أمره، والشاهد المحسوس دليل قطعي ونص في محل النزاع، فـ: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، فالعموم محفوظ غير مخصوص، ولو كان صاحبه أنعم أهل الأرض، فغم عاجل وعذاب آجل، لإعراضه عن ذكر الرحمن: مادة حياة القلوب، فهو المعين في النوازل، المثبت في الشدائد التي لا يخلو منها أمر عبد من العباد ولو كان أعظم الملوك وأسمى الأمراء، فمن طلب الانفكاك عن هذه السنة الكونية، فهو ممن يصدق فيه قول القائل:

طبعت على كدر وأنت تريدها ******* صفوا من الأقذار والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها ******* متطلب في الماء جذوة نار

فلو جرب ما جرب فلن تنخرق السنة الكونية من أجله، فناره مطفأة، فلن يسلم أحد من الابتلاء، وإن توخى الحذر، واجتهد في تحصيل السلامة، فاستفرغ الجهد وبذل من الأسباب ما بذل، فذلك الناموس الكوني الذي قهر به الرب، جل وعلا، عباده، ليعلموا أنهم له مربوبون مقهورون، ولأمره الكوني النافذ خاضعون، فظهر بذلك القدر الفارق بين الرب القاهر والعبد المقهور، فذلك من أسمى غايات وقوع الآلام، وليستخرج الرب بها من عباده ما به عنهم يرضى، ولهم يدخر من أجناس التذلل والخشوع، فيجتهد الطائع ويرجع العاصي، فقدره، جل وعلا، كله خير، وإن كان في المقدور شر عاجل، فالمآل لمن صبر واحتسب: فرج قريب، وذلك أمر، كما تقرر في أكثر من مناسبة، لا تظهر حقيقته إلا حال وقوع الابتلاء،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير