تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فليس لنا في أزمنة السلامة إلا التقرير والتذكير، لعل مبتلى يطالعه، فيورثه صبرا على مصيبته، وإذا كان الابتلاء كأسا كل منه شارب، فإن العاقل لا يتطلبه ولا يستجلب أسبابه، بل يدفعه بما سن الله، عز وجل، من أسباب الشرغ والكون، فالكون قد أقيم على سنة التدافع، فيدافع القدر بالقدر، فقدر الصدقة الشرعي من أعظم ما يدفع به قدر الابتلاء الكوني، والإنفاق في أوجه الخير، مما يصلح به أمر القلب والبدن، على حد: (امسح بيدك على رأس اليتيم، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتقدر على حاجتك)، فذلك شفاء الصدور، وحد: (دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ)، فذلك شفاء الأبدان، ولن يجد العقلاء، وإن كانوا كفارا على غير رسم التوحيد، دواء للهموم أنجع من بذل المال والجاه والوقت والبدن، ولنا أهلَ الإسلام، مزيد فضل في ذلك، كما اطرد من حالنا في كل شأن، فالمسلمون بما صح من عقود قلوبهم وأعمال جوارحهم أسعد الناس حظا بأجناس الخير التي قررها الوحي على ألسنة الرسل، عليهم السلام، فكل خير في غيرهم فهو فيهم أعظم وكل شر فيهم فهو في غيرهم أعظم فهم آمن الناس جانبا فخيرهم ظاهر وشرهم باطن وإن ظهر عظيما في أزمنة احتجاب شمس النبوات كما هو حالنا في هذا الزمان إلا أنه إجمالا أهون من الشر الظاهر في الأمم التي لا حظ لها من التوحيد بل هي بضده متلبسة ففساد ظاهرها العريض فرع عن فساد باطنها، وذلك أمر، كما تقدم في أكثر من مناسبة، مطرد، ففساد الباطن ذريعة فساد الظاهر، والشاهد أن لنا أهل الإسلام من ذلك الدواء الناجع أوفر نصيب، إذ أعمالنا لو خلصت فصدرت برسم التوحيد فهي جامعة بين خير: العاجل بزوال الهموم وشرح الصدور، والآجل بثواب يدخره الله، عز وجل، بمقتضى فضله وكرمه، فنعمته الكونية على عباده سابغة، فتلك مما تفضل به على المؤمن والكافر، ونعمته الشرعية على عابديه سابغة، فهم الذين فقهوا أمر القدر، فعلموا خير فعل الرب، وإن كان في المفعول شر، فالشر ليس إليه، ولن يحصل ذلك، كما تقدم مرارا، إلا بالعلم ابتداء، والعمل بأسبابه حال النوازل انتهاء فذلك منتهى السؤل وغاية الأمل فهو المراد لذاته، فما ندب العباد إلى العلم الإلهي إلا ليتوصلوا به إلى العمل بمقتضى الشريعة الخاتمة.

والشاهد أن: عين الافتقار إلى الله، عز وجل، هو عين الاستغناء به، إذ انقطاع الأمل ممن سواه يلجئ صاحبه إلجاء إلى طرق بابه، فاليأس مما في أيدي عباده من العواري المستردة، يجعل العاقل يتوجه إلى معيرها فهو المالك الأصلي، الذي أذن للمستعير في الانتفاع بها وفق ما سنه من الشرائع المحكمات، فلا يعدل إلى الفرع مع وجود الأصل إلا من فسد قياس عقله، وذلك، أيضا، مما لم يسلم منه أحد لا سيما في أعصار الحضارة المادية المتأخرة التي علقت القلوب بالأسباب، فصار الأمر معادلات وأرقاما لا تخضع في نظر صاحبها إلا للقياس العقلي المحض، فهو يباشرها برسم الاعتماد على قواها التأثيرية لا برسم التعبد بمباشرة الأسباب وإظهار الافتقار إلى القدرة الربانية التي بها تتولد المسبَّبات من أسبابها.

وكمال ذلك الاستغناء بإظهار كمال الافتقار له وكمال الاستغناء عن غيره يستلزم كمال التعبد له، فقد شهد القلب مقام اسمه المهيمن، فهو المهيمن بقدره الكوني، المهيمن بكتابه الشرعي، فله كمال الهيمنة على القلوب والأبدان، وشهوده لهذا المقام يستلزم تمام الخضوع لمن هذا وصف جلاله، وهو مع ذلك قد رَبَّ عباده بوصف جماله، فظهر بذلك كماله الذاتي والفعلي كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أكثر من مناسبة.

وعلى النقيض: عين الاستغناء بغير الله، عز وجل، هو عين الفقر، فالقلب معلق دوما بالسبب، فيسعد لجريانه، ولو كان فيه هلاكه، ويحزن لفواته، ولو كانت عين مصلحته الآجلة، التي هو عنها غافل، لو كانت عينها في فوات محبوبه الآني، فالنظر إلى الأسباب وقطع النظر عن مجريها يحرم صاحبه من الرضا بالأقدار، فلا يرى إلا المفسدة الجزئية بفوات مراده، ولا يستحضر مقام قدرة الرب، جل وعلا، إذ شاء عدم وقوع المراد مع استيفاء شروطه وانتفاء موانعه، ومقام حكمته إذ المصلحة، ولو كانت آجلة، في حجب ذلك المراد، فبحجبه تستدفع مفسدة أعظم، كمن حرم مالا كان سيطغيه، فحجبه عين مصلحته

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير