تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مرارا، لا يتلقى إلا من أخبار وأحكام النبوات، فهي أنفع الأدوية في علاج النفوس، إذ هي على رسم الصدق الذي يشفي الصدور من الشبهات، والعدل الذي يشفي الجوارح من الشهوات، وإذا صلح الباطن إخلاصا وتجريدا، وصلح الظاهر: عملا ومتابعة لسنن الشرع: قدرا ووصفا، فلا يتعدى العبد على توقيف الشارع، عز وجل، الذي يعلم ما يصلح حال المكلف من العلوم النافعة والأعمال الصالحة، إذا صلح الباطن والظاهر على ذلك الحد: حصل الفلاح في الدارين يقينا، والأمر عسير لا سيما مع تطاول أمد الصراع بين العبد من جهة، ونفسه وشهوات الدنيا ووساوس الشيطان من جهة أخرى، فلا قبل له بتلك الجيوش الجرارة من الشبهات والشهوات إلا إذا أمده الله، عز وجل، بمدد الوحي فبه يدفع كتائب البغي، فيظهر عليهم بسيف حجة الشرع الماضي.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وقال إبراهيم بن أَدهم: طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى، وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر". اهـ

ص65.

فمن أعرض عن الدنيا أتته صاغرة، ومن أقبل عليها تمنعت وهي الراغبة.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وسئل يحيى بن معاذ عن الغنى فقال: هو الأَمن بالله عَزَّ وجَلَّ". اهـ

وانظر إلى حالنا تعرف مدى فقرنا على ذلك الحد الوجيز البليغ، فكلٌ قد خاف، فمن خائف من ضيق الرزق فهو بكنز الأموال مشغول، ومن خائف من المرض فهو لأسباب الحمية محصل، ولأصناف الدواء متعاط، فبهما قد أنيط رجاؤه وأمله، ومن خائف من جور السلاطين والأمراء فهو عن دعاء الخلق إلى الهدى ناكل والفرق بين الحذر والجبن دقيق فلا يكاد يعرفه إلا من رزق حدة في البصيرة يرجح بها بين المصالح والمفاسد فذلك من أجل علوم الرسالات السماوية التي جاءت لتحصيل أعظم المصالح ودفع أعظم المفاسد، ومن خائف من اجتياح جيوش الأمم المتكالبة فهو لما يملى عليه خاضع على حد ما نراه من حال كثير من ملوك الطوائف قديما وحديثا!، ومن خائف من البشر، فهو لمراضيهم فاعل، ولو خالفت مراضي الرب الخالق، عز وجل، ولمساخطهم حاذر، ولو كانت عين ما أمر به الشارع عز وجل. وتلك قمة الخذلان إذ تعلقت الهمة الدنية برضا البرية التي لا ترضى بالكثير فهي طامعة في المزيد لعظم افتقارها إلى حظوظها، فشغلت عن رضا رب البرية الذي يرضى من عباده بالقليل، لكمال غناه عنهم، فلا يحتاج إلى ما بأيديهم، فهو واهبه، ولا تناله طاعاتهم بالنفع أو معاصيهم بالضر فهو مقدرها عليهم بمقتضى قدرته وحكمته، فامتن على من شاء بلزوم جادة الشرع: علما وعملا، فذلك من فضله، وابتلى من شاء بالعدول عنها فذلك من عدله.

والخوف قد هزم نفوسا قبل أن تقاتل جيوش الشبهات والشهوات، وهزم أبدانا قبل أن تقاتل جيوش الأعداء من الإنس والجان. وما أيسره من نصر!، فليس فيه خسائر على الإطلاق!.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وسئل أَبو حفص: بماذا ينبغي أَن يقدم الفقير على ربه؟ فقال: ما ينبغي للفقير أن يقدم على ربه بشيء سوى فقره. وقال بعضهم: إِن الفقير الصادق ليخشى من الغنى حذراً أَن يدخله فيفسد عليه فقره، كما يخشى الغنى الحريص من الفقر أَن يدخله فيفسد عليه غناه". اهـ

فلكلٍ ما يصلح شأنه، فذلك من تمام ربوبية الباري، عز وجل، فقد نوع في أحوال عباده، فمنهم من يحتمل الفقر بل هو عين صلاحه، ومن من يفسده الفقر، فلا صبر له عليه، ومنهم من يحتمل الغنى على حد القيام بحق الرب، عز وجل، فيه، فهو من هذا الوجه: ابتلاء كالفقر، وإن اختلفت عبودية صاحبه عن عبودية صاحب الفقر، فكلاهما في وصف الافتقار إلى الرب، عز وجل، في إقامة شرعه فيما قدر كونا، كلاهما فيه سواء: فالغني فقير إلى مقام: "إياك نستعين" ليحقق مقام: "إياك نعبد" بإنفاق ما تحت يده مما استخلف فيه من الأعراض والأموال على حد الشرع فلا تقتير ولا تبذير، والفقير مفتقر إلى مقام: "إياك نستعين" ليحقق مقام: "إياك نعبد"، بالصبر على مرارة الفقر وكف النفس عن التطلع إلى ما متع به غيره من زينة الحياة الدنيا، على حد التكليف بالنهي في قوله تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير