ولكل ما يصلحه من القدر الكوني والقدر الشرعي، فقد نوع الباري، عز وجل، بين العباد في أرزاق الشرع والكون فظهر بذلك من آثار حكمته ما استحق به وصف كمال الربوبية: قدرة وحكمة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[18 - 09 - 2009, 08:16 ص]ـ
وقال بشر بن الحارث: "أَفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر". اهـ
فلا ينفك العبد عن افتقار إلى الرب، جل وعلا، من يوم الميلاد إلى يوم الممات.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وسئل ابن الجلاءِ: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فقال: إِذا لم يبق عليه بقية منه. فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: إِذا كان له فليس له، وإِذا لم يكن له فهو له. قلت، (أي: ابن القيم رحمه الله): معنى هذا أَنه لا يبقى عليه بقية من نفسه، فإِذا كان لنفسه فليس لها بل قد أَضاع حقها وضيع سعادتها وكمالها. وإِذا لم يكن لنفسه بل كان كله لربه فقد أحرز كل حظ له وحصل لنفسه سعادتها فإنه إذا كان لله كان الله له، وإذا لم يكن لله لم يكن الله له فكيف تكون نفسه له؟ فهذا من الذين خسروا أَنفسهم". اهـ
ص65.
فقد حقق ما لم يحققه أكثر الناس، فحظ النفس مما عم وطم فلم يسلم منه إلا آحاد الصديقين، فليس له في زماننا وجود تقريبا، إلا من اصطفى الله عز وجل، فالخروج من حظ النفس والانخلاع من شهوة التقديم والتصدير برسم الرياسة والإمامة أمر لم يسلم منه إلا المخلصون الذين فازوا، كالعادة، بالقدح المعلى من كل العلوم والأعمال، فقلوبهم قد امتلأت بعلوم النبوة، فتصورهم لعظمة الرب المعبود، جل وعلا، أصح تصور، فصدر عنه، كما تقدم مرارا، أصح الأحوال القلبية والأقوال اللسانية والأعمال البدنية.
فإذا بقي له حظ نفس، فقد انتقص من عبوديته للملك، جل وعلا، بقدر ذلك، فهو مملوك لا محالة، لنفسه الأمارة أو لربه الجليل، الذي لا يقبل الشركة في الحال أو القول أو العمل، فمن عمل ليحصل حظ نفسه من الوجاهة والثناء فعمله لمن صدره وقدمه وأثنى عليه، وذلك من أدلة غنى الرب، جل وعلا، فالغني لا يفتقر إلى شريك في ملكه أو فعله، فلا يعجز عن تدبير كونه حتى يستعين بغيره على حد المشاركة أو المعاونة، فهو الغني في ربوبيته، الغني في ألوهيته فلا يقبل عمل من أشرك معه غيره، فالتمانع في الشراكة في الربوبية لازمه التمانع في الشراكة في الألوهية، فكما أنه الرب الغني بأفعاله، فهو الإله الغني عن أفعال عباده إذا وقعت على حد التشريك والتنديد فلا يقبل إلا ما كان خالصا ناصحا له. فالإنسان عبد قد فطر على التأله والافتقار إلى المعبود على حد اللجوء والخضوع، فإن لم يتأله للمعبود الحق، ضل قلبه في أودية المعبودات الأرضية، فهمته قد توزعت، وقواه الباطنة قد تشتتت، بخلاف من وحد الوجهة القلبية، فاجتمعت قواه لنيل أعز مطلوب: تحقيق عبودية الرب المعبود بحق جل وعلا.
وقوله: "وقيل: حقيقة الفقر أن لا يستغني الفقير فى فقره بشيء إلا بمن إليه فقره". اهـ
فالفقير لا يفتقر إلا لمن بيده غناه، فقلبه قد خضع لرب الأسباب، فليس له في الأسباب حاجة قلبية، وإن بذلها على حد امتثال السنة الشرعية، فالكون، كما تقدم في أكثر من موضع، تجري أحداثه وفق نواميس كونية مطردة، لا يهملها إلا ناقص العقل معطل للشرع.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال أَبو حفص: أحسن ما توسل به العبد إِلى مولاه دوام الفقر إِليه على جميع الأَحوال، وملازمة السنة فى جميع الأَفعال، وطلب القوت من وجه حلال". اهـ
فيصلح باطنه بدوام الافتقار، ويصلح ظاهره بمتابعة السنن، فالباطن لا يصلحه إلا دوام الاحتياج إلى الرب، جل وعلا، فمنه يستمد مادة حياته، فمتى أحس بالاستغناء عن العلم الإلهي، فسد قلبه، بانقطاع مادة صلاحه، فالعلم الإلهي يصوب تصوره، فتقوى قوته العلمية على مجابهة الشبهات، وتولد من القوى العملية الباطنة ما يدفع به الشهوات، ثم يأتي الشرع ليصحح أعمال الظاهر فيتوافق باطن العبد وظاهره على حد الوحي، فصلاح ظاهره فرع عن صلاح باطنه كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في أكثر من موضع.
وأكل اليسير من الحلال بلا سرف أو تقتير: مظنة صلاح القلب وخفة النفس في سيرها إلى الله عز وجل.
يقول ابن القيم رحمه الله:
¥