تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"وقال بعضهم: ينبغى للفقير أَن لا تسبق همته خطوته. قلت: يشير إلى تعلق همته بواجب وقته، وأَنه لا تتخطى همته واجب الوقت قبل إكماله. وأَيضاً يشير إلى قصر أَمله، وأَن همته غير متعلقة بوقت لا يحدّث نفسه ببلوغه وأَيضاً يشير إلى جمع الهمة على حفظ الوقت، وأن لا يضعفها بتقسيمها على الأَوقات". اهـ

فحفظ الوقت من الضياع هو حفظ النفس من التلف، فالعبد أيام ينقضي منه قدرُ ما ينقضي منها، كما أثر عن الحسن، رحمه الله، فكل يوم يمضي هو شوط من سفر الهجرة إلى الله، عز وجل، سواء أكان السائر قد فقه سنن الشرع فجاء سفره حجا إلى الرب، جل وعلا، قد تجرد فيه القلب من ثياب الشبهات والشهوات فلم يقارف شيئا من محظورات الإحرام فأدى مناسك التأله في خضوع العابد الشرعي، أم كان سائرا بمقتضى الإرادة الكونية، فخضوعه خضوع العبد الكوني، وإن لم يكن على سنن الشرع مستقيما، فهو سائر إلى الله، عز وجل، في ذلك الطريق شاء أم أبى، على حد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)، وإنما امتاز من امتاز من العابدين المسددين بموافقته الإرادة الشرعية الحاكمة متعلق رضا الرب، جل وعلا، والإرادة الكونية متعلق قدرته، فهو على مراد ربه كائن، وعن دائرة مشيئته غير خارج، فلا تملك ذرة من ذرات الكون المشهود أو المغيب الخروج عن أمر الله، عز وجل، التكويني النافذ، فقدره، عز وجل، في الكائنات: ماض، شاء من شاء وأبى من أبى، فطوبى لمن سلم قلبه للقدر الكوني: دفعا للمقدور بالمقدور وصبرا على ما لا قدرة للعبد على دفعه أو بذل سبب ممكن لرفعه، والقدر الشرعي: بامتثال المأمور.

فمن علم ذلك: شح بوقته فهو أشح من البخيل الحريص على دراهمه، فللأول ساعاته ودقائقه، وللثاني: دنانيره ودراهمه، ولكل همته، ولكل غايته، وبتباين المبادي تتباين المناهي فـ: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)، فلا يستوي العاقل الحريص على صالحه المقبل على شأنه، فواجب وقته بين عينيه ماثل، ولسان حاله ومقاله: طلب الحق بدليله علما وامتثاله والسير على سننه عملا، لا يستوي من هذا حاله، ومن هو لاه مفرط قد بلغ حد السفه في إنفاق عمره، فحري بوليه أن يحجر عليه، حتى يقيه شر نفسه، فلو كان الحجر ممكنا على الأوقات إمكانه على الأبدان والأموال لاستعار العقلاء قيودا يكبلون بها الدقائق والساعات لئلا تضيع هدرا، ولو كانت الأعمار مما يباع ويشترى لدفع فيها العقلاء المئات بل الآلاف، كما أثر عن الشيخ المسدد المبارك العمر على قصره: الشيخ جمال الدين القاسمي، رحمه الله، علامة الشام في أوائل القرن الماضي، صاحب التصانيف الكثيرة العدد الغزيرة النفع، فما كان لأمثاله أن يبلغوا ما بلغوا من علو الشأن ونباهة الذكر لولا ما اختصهم بهم الملك، عز وجل، من الإخلاص، فهو كلمة السر، ومستودع الحفظ والفهم، ولولا ما جبلوا عليه من الشح بالأوقات فنوادرهم في ذلك تفوق نوادر البخلاء بأموالهم، حتى أثر عن بعض الفضلاء المعاصرين من أهل العلم استقباله لضيوفه حال قراءته، فينظر لهم بعين، ولما يطالعه من الكتب بعين!، فصارت نهمتهم تحصيل الفضائل العلمية أو العملية، فلكل همته، فلا تجد السائر إلى الله، عز وجل، إلا متلبسا بطاعة: طالبا لعلم في حلقة، قارئا في أخرى، كاتبا في ثالثة، متأملا في رابعة إن كان ممن غلبت قوته العلمية قوته العملية، عاملا على سنن الشرع: نافعا لنفسه ولمن حوله، لا يكل على بذل جاهه وماله، قد تصدق بعمره على طالبي الحوائج، فسعي على الأرامل والأيتام، وشفاعة بالجاه عند ذوي السلطان، فله في كل شعب الإيمان العملية نصيب، إن كان ممن غلبت قوته العملية قوته العلمية، فإن استوت القوتان عنده، فهو بكليهما متصف، فذلك الرباني الذي عز وجوده فلا يصطفي الله، عز وجل، لذلك المقام الرفيع إلا أصحاب الهمم الملوكية، ومن رحمة الله، عز وجل، بنا، أنه لم يكلفنا بما كلف به أولياءه المقربين، إذ لا طاقة لآحاد السالكين بسير السابقين، فغايتنا أن نستفرغ الجهد لنكون من أصحاب اليمين، من أصحاب: "سَدِّدوا وقاربوا".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير