تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد أن عقلاء الأمم قد أجمعوا على مدح من كان ذلك حاله في إنفاق أوقاته، فلا ينفقها إلا فيما هو نافع سواء أكان من أهل الإيمان، فهو نائل بذلك: الخيرَ عاجلا وآجلا، أم كان من أهل الكفران فهو نائل بذلك الخير العاجل، فلا حظ له في الخير الآجل، إذ قصرت همته عن دركه، لفساد تصوره العلمي، فلا تجدي الخلال الكريمة شيئا باقيا إلا إذا تعلق قلب صاحبها بالآخر الباقي عز وجل.

ومن وصف أمير المؤمنين المسدد الراشد بل الرشيد: عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي أنفق سني خلافته في صون الملة وسياسة الدنيا بالدين، من وصفه: "وكان قليل الضحك، لا يمازح أحدا، مقبلا على شأنه". اهـ

ومن غير أبي حفص يكون على ذلك الوصف؟!، فليس عنده من الفراغ والبطالة ما يجعله ملجأ المتسكعين من السائرين، فلا وقت عنده إلا لأرباب الجد الذي أقض المضاجع وأقل الضحك فلا يعرف صاحبه المزاح إلا لمما، ولا يجلس على جانب الطريق إلا ليستريح لحظات يعاود بعدها السير، فإن السفر طويل، والزاد قليل فسنوات العمر معدودة، و: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة"، و: عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى، فما هي إلا لحظات يسيرات وتظهر أعلام الدار الباقية، فيهون في سبيل سكناها ما أنفق من الأوقات والأموال في الدار الفانية، فالنعيم في الدار الأولى: عارض، تستجم به نفوس السائرين لحطات سرعان ما تنقضي، والنعيم في الدار الآخرة: دائم سرمدي تحياه النفوس على حد الخلود، وهو مع ذلك ناصح خالص لا كدر فيه ولا شوب، بخلاف نعيم الدنيا الذي يشوبه ما يشوبه من الآلام، فمجرد تحصيله أمر يستدعي بذل الجهد على حد الاستفراغ، فيجتهد صاحبه في تحصيل ثمنه وشراء عينه، فلا ينفك عن نصب حتى حال تناوله، وحق للعقلاء أن يزهدوا في نعيم هذا وصفه فهو إلى المشقة واللغوب أقرب.

فيا أصحاب الأعمار التي اتنصفت أو كادت: مضى شطر الطريق اليسير، وأقبل شطره العسير، فليس بعد اليوم إلا نقص في العقل والبدن، وليس ثم بعد قوة الشبيبة إلا ضعف المشيب، فشحا بالأوقات ألا تنفق في غير مراضي الرب، وحذرا قبل ذلك من الركون إلى الأسباب، ولو حال الطاعة، فمن وكل إلى نفسه، فظن استغناءه عن تسديد الرب، جل وعلا، له بقدرته الكونية النافذة، وهذا حال كثير من السائرين ممن شهدوا مقام: "إياك نعبد" وغابوا عن مقام: "إياك نستعين"، من كان هذا حاله فهو مخذول وإن أراد الخير، فكيف بمن كانت همته ابتداء شرا محضا؟!. فالعبد مفتقر إلى ربه، عز وجل، ليهديه سنن طريق الحق، فيعلمه على حد اليقين العلمي الراسخ، وهو مع ذلك الافتقار العلمي: مفتقر إلى تسديد الرب، جل وعلا، بخلق إرادة امتثال الأمر والنهي فيه، وخلق فعل الطاعة في جوارحه فلا يستعملها إلا في مراضي الرب، جل وعلا، فذلك الافتقار العملي، فهو مفتقر له، جل وعلا، في التصور العلمي والحكم العملي، فلا غنى له عن الوحي الذي تصح به عقود القلوب الباطنة وأعمال الجوارح الظاهرة، فالتكليف منه، جل وعلا، والتشريف بامتثال أمره ونهيه، منه، أيضا، تبارك وتعالى، فلا غنى للمسدد عن ربه ليشهده مقامي: "إياك نعبد"، و: "إياك نستعين" فلن نعبدك إلا إذا أعنتنا، ولن نطيعك إلا إذا سددتنا، ولن نحيى في دار الابتلاء إلا إذا أبقيتنا، ولن ننجو في دار الجزاء إلا إذا اصطفيتنا، فلك وحدك: تسيير أسباب الكون وسن أسباب الشرع، ولا حول ولا قوة إلا بك في مباشرتها على الوجه الذي يرضيك عنا، وكم أوتي بشر من أسباب الكون وحرموا من أسباب الشرع، فهم أذكياء بلا زكاء، وكم أوتي آخرون من أسباب الشرع وحرموا من أسباب الكون، فحالهم أحسن، إذ تبلغ بهم نواياهم الشرعية ما قصرت عنه أسبابهم الكونية، وخير أجناس البشر من أوتي الأمرين: فله من أسباب الشرع ما يصلح به قلبه، وله من أسباب الكون ما يعف به نفسه عن سؤال غير الباري، عز وجل، على حد ما تقدم من تعريف حقيقة الفقر بأنها: "حقيقة الفقر أن لا يستغنى الفقير فى فقره بشيء إلا بمن إليه فقره". اهـ

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 09 - 2009, 08:58 ص]ـ

يقول ابن القيم رحمه الله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير