تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"وقيل: أقل ما يلزم الفقير أربعة أشياء: علم يسوسه، وورع يحجزه، ويقين يحمله، وذكر يؤنسه". اهـ

ص66.

فلا بد من العلم فهو الحاكم المهيمن على الأقوال والأفعال يسوسها بناموس التشريع، ويلجمها بلجام التحليل والتحريم، وتقدم في أكثر من مناسبة، وجه تقديم العلم في قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، فالعلم بألوهيته، جل وعلا، على حد الإفراد والتنزيه عن التشريك والتنديد، ذلك العلم الشريف: طريق الاستغفار، وسائر أعمال القلب واللسان والجوارح، فبصحة الأصول العلمية تصح الفروع العملية، فلا ينظر إلى الفرع بعين العناية، والأصل فاسد، إذ لا جدوى من فرع قد فسد أصله، فأعمال المشركين، وإن كانت صالحة في نفسها، قد صارت هباء منثورا لفساد الأصل الذي عليه انبنت، فما بني على باطل فهو باطل.

والورع يحول بين النفس والمحارم: فإن مقارفة المحارم مئنة من نقص العلم بالله، عز وجل، فما عصاه العاصون إلا جهلا بقدره، فلو شهدوا مقام علمه الذي أحاط بكل معلوم، وسمعه الذي أحاط بكل مسموع، وبصره الذي أحاط بكل مبصر، لو شهدوا تلك المقامات الرفيعة ما استباحوا محارمه، ولانكفوا عن مساخطه لشهوده ذلك، بل لسبق قضائه الكوني به، فاستحضار ذلك المقام الرفيع يحمل العبد على الحذر من مكره، جل وعلا، أن يستخرج خبء القلب ودخيلته بقضائه الكوني النافذ فيبتلي العبد بما يظهر به عواره، فإن الطاعة بقدر هو من فضله، والمعصية بقدر هو من عدله، فالعبد غير مظلوم على كل الأحوال فهو إما ممنوح بمقتضى الفضل أو ممنوع ما ليس له بمقتضى العدل إذ لم يمنعه الله، عز وجل، شيئا هو له حق، فلا حق للعباد على ربهم الجليل، تبارك وتعالى، وإنما هو فضله آتاه من شاء ومنعه من شاء بمقتضى قدرته وحكمته.

فالورع من الملكات النفسية التي تصدر عن التصور العلمي الصحيح لأسماء الرب الحميد المجيد، جل وعلا، وصفاته وأفعاله في خلقه الجارية على سنن الحكمة الكاملة. فالورع في القول والفعل فرع عن الورع في القلب بتنزيه الرب، جل وعلا، عن أوصاف النقص، فذلك توحيده في ذاته بأوصاف كماله، وتوحيده بأفعال القلب، وذلك، كما تقدم مرارا، أعسر أركان الإيمان، فقول القلب يلائم الفطرة التوحيدية الأولى فلا يجد العبد عسرا في قبول مقالة الحق فهي على حد ما جاءت به النبوات الصحيحات، وما أيدته العقول الصريحات، وما قررته الفطر السويات التي جبلت على معرفة الرب بوصف كماله إجمالا في العلم، وتوحيده بفعل عباده إجمالا في العمل، فمقالة كهذه كيف يجد القلب والعقل عسرا في قبولها، وقول اللسان يجري على اللسان بلا كلفة سواء أكان القائل: مؤمنا أم منافقا، وعمل الجوارح، وإن كان شاقا، إلا أن كثيرا من المكلفين يوقعه على حد العادة، فلا يجد عسرا في الإتيان بالصور الظاهرة، وإنما الشأن كل الشأن: الذي شمرت له سواعد الموحدين وأنيطت به همم المخلصين: الشأن كل الشأن: عمل القلب، الذي لا يجري ذكره على اللسان إلا على حد التذكير بمعان جليلة لا تدرك بلسان أو جارحة، وإنما يظهر أثرها عليهما، فتجد اللسان لاهجا والجوارح عامرة بكل صالح قد جلله صاحبه بثوب الإخلاص الباطن، فعمله القلبي قد أثمر في ظاهره ثمارا من القول والعمل جعلته على الطريق مستقيما، وما بقي إلا الصبر على بعد الشقة، فعما قريب تظهر مضارب الأحبة، فيرتاح المهاجر في ديار لا صخب فيها ولا نصب، فلا قطاع طريق من شياطين الإنس والجن، كالذين آذوه بضجيجهم في سفره، فأثاروا الشبهات وهيجوا الشهوات، ونصبوا الكمائن ليوقعوا به، فجعلوا الطريق موحشا مخوفا، والرحلة صعبة شاقة، فأحجمت نفوس كثيرة عن السير فيه، وإن كانت تعلم أن عين النجاة في سلوكه، فامتاز أصحاب الهمم العلية من أصحاب الهمم الدنية، وبقي من بقي من الموحدين في أسر الشياطين، فهم في القيد يرسفون، فساعة يقاومون وساعة يستسلمون، فالله يغفر لنا التخليط في النوايا والأعمال، فيحررنا من ذلك القيد الثقيل الذي قعد بالنفوس عن نصرة الدين، ومن رحمته، جل وعلا، أن جعل القدرة مناط التكليف، فلكل ابتلاؤه، ولكل ميدان عراكه، وعلى قدر الهمة تكون قوة العدو المنازل، فكلما ازدادت القوة القلبية:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير