تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

علما وعملا، زادت قوة وشراسة الخصم المقابل، ويبتلى كل على قدر دينه، والحمد لله الرب المجيد الحميد الذي أظهر من آثار قدرته ذلك التفاوت العجيب في الصور الظاهرة والصور الباطنة، فلا يعلم مراتب المكلفين على حد التفصيل إلا الرب، جل وعلا، و: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ)، فمنا من له مقام الملوك فهمته لا ترضى إلا بالمعالي، ومنا من همته همة الأمراء فهي دونها، ومنا من همته همة الرعية، ومنا من همته همة الصعاليك فهي بالدنايا والمخازي قانعة، فبقدره الكوني اصطفى كلا لمنزلته، وبقدره الشرعي ابتلى كلا ليظهر في عالم الشهادة مكانته.

وأما اليقين فهو الباعث على العمل والحامل على تحمل مشاق السفر، فلا قدرة لشاك على سلوكه، إذ هو مذبذب بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وفساد الرأي من التردد والشك المنافي لليقين، و:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ******* فإن فساد الرأي أن تترددا

فكم علمت نفوس الحق ولكنها ترددت في قبوله فعوقبت بحرمانه، فلا يتردد أحد في قبوله إيثارا لعاجلة من ملك أو جاه أو مال ............... إلخ إلا سلبه جزاء وفاقا، وانظر إلى حال هرقل لما علم صدق رسالة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم أبى الانقياد لها ضنا بملك زائل، فإن الحق عزيز الشأن لا تقبله إلا أرض عزاز، فمن كانت أرضه بورا لم تنبت فيها بذرة هداية الدلالة لتثمر هداية التوفيق إلى صالح القول والعمل، فليس من الحكمة في شيء أن تغرس بذرة طيبة في أرض خبيثة، فذلك من السفه الذي يتنزه عنه آحاد الحكماء فكيف بأحكمهم جل وعلا؟!، فلا يصطفي لرسالاته بلاغا وحملا وعلما وعملا إلا من علم طيب تربة قلبه، فـ: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، فتلك: حكمته، و: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) فتلك: قدرته، فيختار بقدرته النافذة وحكمته البالغة لمنصب ولايته آحادا من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا مطمع في درك رتبة النبوة فتلك اصطفاء محض، فلا ينال بكسب أو فتوة، فإن فاتت تلك الرتبة فلا تفوتنك بقية الرتب على حد:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ******* إن التشبه بالكرام فلاح

ولا أقل من الصحبة الصحبة يا أهل الحق، وإن لم نكن لصحبتكم أهلا، فليكن لنا من رفقتكم نصيب فقد حسن أولئك رفيقا.

.

وأما الذكر فهو المؤنس الذي يذهب وحشة القلب، فيقوى على السير في طريق: الوحشة رسمه لقلة سالكيه، وعظم مشقته، ولكلٍ حبيب يأنس بذكره، وذلك، أيضا، مما تتفاوت فيه أقدار المحبين، تبعا لتفاوت هممهم، فالكامل في علمه وعمله لا يحب إلا الكامل في ذاته ووصفه، فذلك مئنة علو قدره، ونفاسة نفسه، والناقص لا يحب إلا ناقصا، ولا يتعلق قلبه إلا بصورة أرضية ناقصة على حد التأله، وإن لم يكن مشركا الشرك الأكبر، فشركه من النوع الدقيق المعنى، الظاهر الأثر، من نوع: (تَعِس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القَطِيفة)، فكل من أحب غير الله، عز وجل، من الصور الفانية والعرض الزائل فله من العذاب بقدر ما لذلك المحبوب من شعب قلبه، فبقدر استيلاء المحبوب على شعب القلب يكون الأثر الظاهر فقلب قد استولى الله، عز وجل، عليه، فلا مكان فيه لسواه، على حد المثال العلمي، فظاهره قد ملئ انقيادا عمليا، كما ملئ باطنه استسلاما علميا، وقلب على النقيض قد استولى العدو عليه فهو سبيه، وعلى قلبه وجوارحه قيده، فصيره له عبدا لا يملك من أمر نفسه شيئا فهو وما اكتسبه لسيده، إذا رضي عنه رضي ولو كان ذلك بسخط ربه، جل وعلا، وإن سخط عليه جزع وإن كان ذلك برضى الرب، تبارك وتعالى، فبئست حال من كان مولى قلبه غير الرب المالك الملك، جل وعلا، وقلب قد اجتمعت فيه المادتان: مادة العبودية الشريفة، ومادة العبودية الخسيسة، فكل قد استولى على شعب من القلب، والصراع بينهما لا زال محتدما، فتارة تظهر جنود الحق فيكاد قلبه يتحرر بأكمله، وتارة تظهر جنود الباطل فيكاد قلبه يسترق بأكمله، ولكل ساعة من ساعات النزال: بيان عسكري!، فالتفاوت في الغلبة والظهور يكون بتفاوت أحوال القلب زيادة في الإيمان ونقصانا، وذلك تفاوت، هو الآخر، لا يحصيه إلا مصرف القلوب جل وعلا.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير