تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[20 - 09 - 2009, 09:20 ص]ـ

قال ابن القيم رحمه الله:

"وقال أبو سهل الخشاب لمنصور المغربى: إنما هو فقر وذل. فقال منصور: بل فقر وعز. فقال أَبو سهل: فقر وثرى، فقال منصور: بل فقر وعرش. قلت: أَشار أَبو سهل إِلى البداية ومنصور إِلى الغاية". اهـ

ص66.

فهو فقر وذل للنفس، ولكنه ذل هو عين العز، فأي عز أعظم من الذل للرب الجبار، تبارك وتعالى، فإن العاقل لا يخضع على حد الاختيار إلا لقوة عليا قادرة حكيمة، فبقدرتها يأمن السائل من عدم تحقق مراده، وبحكمتها يأمن السائل من وقوع مراده على غير سنن الرشد، فكم من سائل قد سأل ما فيه عين هلاكه، فاقتضت حكمة الرب، جل وعلا، أن يحجبه عنه، وإن كان قادرا على منحه، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فالخاضع لأمر الله، عز وجل، الشرعي على حد الاختيار، والخاضع لأمره الكوني النافذ على حد التسليم لما لا يمكن دفعه أو رفعه، قد أمن في دينه ودنياه، فلا يعرف الجزع إلى قلبه سبيلا، إذ قد استغنت روحه بغذاء القدر الشرعي، واطمئن بدنه بالقدر الكوني، فيمتثل المأمور الشرعي الذي به صلاح روحه، ويصبر على المقدور الكوني وإن كان فيه عطب بدنه، فالشر في المقدور الكائن لا في القدر المُكَوِّن، والإلحاح في طلب السلامة: مطلوب كل العقلاء فلا يتطلب عاقل الفتنة في الدين أو الدنيا، إذ ذلك من الشدة التي لا يصبر عليها إلا آحاد الشرفاء، والابتلاء: سنة كونية جارية، فلن يسلم منه مؤمن أو كافر، بر أو فاجر، وإنما الشأن: من يصبر على حد الاختيار الإنساني لا الاضطرار الذي تشترك فيه كل الكائنات الحساسة.

وهو فقر وغنى باعتبار المآل، فبقدر الذل يكون العز، وبقدر الافتقار إليه يكون الاستغناء به، وبقدر السجود بين يديه يكون الاقتراب منه على حد قوله تعالى: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، فهو قريب منا بعلمه، قد أحاط بكل المعلومات حقيقة وكنهاً، وليس الشأن تحصيل هذا القرب فهو قرب عام لكل الكائنات، وإنما الشأن في القرب الخاص: قرب العابد المختار الذي آوى إلى كنف وستر الرب، جل وعلا،، فصرف إليه أجناس الطاعة، فحظي بقرب النصرة والتأييد، فهو مسدد في كل خطاه، قد صنع على عين مولاه، فبه يسمع وبه يبصر وبه يبطش على حد التأييد، لا الحلول والاتحاد بالذات، كما توهم أصحاب الفهوم السقيمة التي أصابتها أدواء مقالات الإفك القديمة التي نشأت في أمم قاصية لم تعرف نور النبوة الهادي فانقطعت بها الطريق في بيداء الأقيسة والأذواق والسياسات الأرضية، وليس سواء من: كان بنور النبوة مسترشدا فهو الدليل بين يديه، ومن كان عنه بمعزل فلا قائد لعقله المعزول عن ولاية إدراك المغيبات والحكميات إلا نحاتات أذهان فلان وفلان من الفلاسفة أو الزهاد أو الملوك والأمراء.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وقال الجنيد: إِذا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم، فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه. فقلت: يا أَبا القاسم، كيف يكون فقير يوحشه العلم؟ فقال: نعم، الفقير إِذا كان صادقاً فى فقره، فطرحت عليه العلم ذاب كما يذوب الرصاص فى النار". اهـ

ص66.

وهو لفظ مشكل، قد يفهم منه الإعراض عن تلقي العلم الإلهي من أهله المتبحرين في مسائله المحققين لدقائقه، ممن تحملوا ميراث النبوة: تحمل الثقات وأدوه أداء الحفاظ، وهو أمر قد فشا في متأخري أهل الطريق الذين أحدثوا فجوة مصطنعة بين العلم والسلوك: فصار العلم: مسائل مسرودة لا حلاوة فيها محسوسة، على رسم طرائق المتكلمين في تقرير مسائل الإلهيات: أشرف المسائل العلمية التي يفترض أن تحدث في القلب من الأحوال والإرادات ما فيه حياته، فهو الحساس المتحرك بشتى الإرادات، فإن لم يتحرك على منهاج الوحي فتكون قواه في الحق والخير فاعلة، تحرك على منهاج الهوى، فتولد من ذلك فساد في العلم والعمل تتعذى به النفس وإن كان فيه هلاكها، فلا بد لها مما يسد رمقها، فإما غذاء الحق المستحصد من أرض النبوات الطيبة، وإما غذاء الهوى النابت في غيرها من الأراضي الخبيثة، فالطيب واحد لوحدة مصدره، والخبيث متعدد لتعدد مصادره، فالنور قد جاء على حد الإفراد والظلمات قد جاءت على حد الجمع.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير