تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالشاهد أنهم أحدثوا تلك الفجوة فصار العلم على الوصف المتقدم، وقد مكن لهم المتكلمون بما نقلوه من علوم اليونان العقيمة التي لا تصحح عقلا ولا تزكي نفسا، فلا قياسها صريح ولا أحوالها مريئة يحصل للنفس بتناولها كمال الانتفاع، فلا نقل من نبوة، ولا قياس من عقل، وإن ادعوا أنهم أربابه، ولا حال إذ هم أبعد الناس بعلومهم الجافة عن أي حال قلبي يولد إرادة عملية نافعة.

وصار في مقابله: السلوك على رسم هجر العلم إذ ظنوا أنه لا علم إلا ما قرره المتكلمون فلم يهتدوا إلى علم النبوات الصحيح الذي لا تخلو منه الأرض، فهو حجة الله القائمة، وإنما الشأن: أن يسدد الرب، جل وعلا، السالك، فيكون سيره على منهاج النبوة، فمنها يستمد العلم، وبمقتضى أحكامها يوقع العمل، فعلومه وأعماله على رسمها حاصلة.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

"فَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ إلَّا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَا يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ بَلْ يَنْظُرُ مَا قَالَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَبَعًا لِقَوْلِهِ وَعَمَلُهُ تَبَعًا لِأَمْرِهِ فَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُعَارِضُ النُّصُوصَ بِمَعْقُولِهِ وَلَا يُؤَسِّسُ دِينًا غَيْرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَإِذَا أَرَادَ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ وَالْكَلَامِ فِيهِ نَظَرَ فِيمَا قَالَهُ اللَّهُ وَالرَّسُولُ فَمِنْهُ يَتَعَلَّمُ وَبِهِ يَتَكَلَّمُ وَفِيهِ يَنْظُرُ وَيَتَفَكَّرُ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ فَهَذَا أَصْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ لَا يَجْعَلُونَ اعْتِمَادَهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى مَا تَلَقَّوْهُ عَنْ الرَّسُولِ؛ بَلْ عَلَى مَا رَأَوْهُ أَوْ ذَاقُوهُ ثُمَّ إنْ وَجَدُوا السُّنَّةَ تُوَافِقُهُ وَإِلَّا لَمْ يُبَالُوا بِذَلِكَ فَإِذَا وَجَدُوهَا تُخَالِفُهُ أَعْرَضُوا عَنْهَا تَفْوِيضًا أَوْ حَرَّفُوهَا تَأْوِيلًا. فَهَذَا هُوَ الْفُرْقَانُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ لَكِنَّ فِيهِمْ مِنْ النِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمُوا فِيهِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ الرَّسُولَ وَلَوْ عَلِمُوا لَمَا قَالُوهُ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ بَلْ نَاقِصِي الْإِيمَانِ مُبْتَدِعِينَ وَخَطَؤُهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ لَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ نَقَصُوا بِهِ". اهـ

فبقدر الترسم برسم النبوة على جهة الافتقار إلى علومها وأعمالها يكون الإيمان متحققا.

وبهذا اقتحم من اقتحم من المحققين العقبة، فاجتازوا فلاة الابتلاء إلى جنة الرحمن، فمن صبر ساعة التكليف على المقدور الكوني النافذ والمقدور الشرعي الحاكم، فاستحضر آثار صفات الجلال كفا للنفس عن المهلكات وحملا لها على ما لم تعتده من الأسباب المنجيات من غضب الرب الجبار، عز وجل، من كان ذلك حاله حظي بآثار صفات الجمال، فهو في دار النعيم المقيم برحمة الرحيم الخاصة، قد استأثر برؤية وجه الجبار: رؤية تنعم خاصة، فمقامه: مقام الخواص، بخلاف مقامات العموم التي يستمتع بآثارها كل موجود، فرحمة الرحمن قد عمت كل الكائنات وإن كانت على غير سنن الهدى ماضية.

والشأن كل الشأن في هذا المقام الجليل الذي لا ينال بكثرة الأعمال الظاهرة إن لم تصدر عن أحوال قلبية صادقة، الشأن كل الشأن: الترسم برسم الإخلاص باطنا فيتولد منه من صلاح الظاهر ما ينشرح به صدر السالك في طريق الأصل فيه: الوحشة، فللإخلاص في النوايا والإصلاح في الأعمال: أثر عجيب في شرح الصدور وإذهاب الهموم، فصاحبه قد نال شعبة من شعب: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير