تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قلت: وبعد فهو كلام مستدرك خطأ فإِن حاجات هذا العبد إِلى الله بعدد الأَنفاس إِذ حاجته ليست كحاجات غيره من أَصحاب الحظوظ والأَقسام، بل حاجات هؤلاءِ فى حاجة هذا العبد كتفلة فى بحر، فإِن حاجته إِلى الله في كل طرفة عين أَن يحفظ عليه حاله ويثبت قلبه ويرقيه فى مقامات العبودية ويصرف عنه ما يفسدها عليه ويعرفه منازل الطريق ومكامنها وأَوقاتها ويعرفه مواقع رضاه ليفعلها ويعزم عليها ومواقع سخطه ليعزم على تركها ويجتنبها، فأَي حاجات أَكثر وأَعظم من هذه؟ فالصواب أَن يقال: الفقير هو الذي حاجاته إِلى الله بعدد أَنفاسه أَو أَكثر، فالعبد له في كل نفس ولحظة وطرفة عين عدة حوائج إِلى الله لا يشعر بكثير منها، فأَفقر الناس إِلى الله من شعر بهذه الحاجات وطلبها من معدنها بطريقها. وإِن كان لا بد من إِطلاق تلك العبارة على أَن منها كل بد فيقال: هو الذي لا حاجة له إِلى الله تخالف مرضاته وتحطه عن مقام العبودية إِلى منزلة الاستغناء، وأَما أَن يقال لا حاجة له إِلى الله فشطح قبيح". اهـ

ص66.

فحاجات العبد إلى ربه: كونا وشرعا، لا تنقطع، فهو مفتقر إلى مدده الكوني ليحفظ البدن، ومفتقر إلى مدده الشرعي ليحفظ الروح، وتلك ثنائية انفردت بها الملة الخاتمة: ملة التوسط والاعتدال فلا إفراط ولا تفريط.

وهل بلا نبوة كان البشر يعرفون ما عليهم من التكليف الشرعي، وما أعد لهم من الثواب إذا وفوا، وما أعد لهم من العقاب إذا قصروا، فالنبوة هي التي دلت البشر على مواضع رضا الرب، جل وعلا لتلتزم، ومواضع سخطه لتجتنب، وهي التي دلت البشر على ما فيه صلاح الأولى والآخرة، فجاءت الأحكام موائمة للفطر، مصلحة لشأن الباطن بأجناس من الأغذية النافعة: علوما وأعمالا، مصلحة لشأن الظاهر بأحكام وسياسات عادلة، عارضها من عارضها من أرباب الجور الذين حادوا عن الوحي، فدافعوا علومه بأقيسة عقولهم الفاسدة، ودافعوا أعماله بأعمال وأحوال حادثة، ودافعوا نواميسه العادلة بشرائع أرضية جائرة، وجاءت الأحكام مخلصة للنوايا محكمة للأعمال محسنة قبل ذلك، الظن برب الأرباب، عز وجل، وذلك عين أسباب النجاة في الدار الآخرة، فالناظر، على حد التأمل، لكل ما يقع في هذا الكون المشهود من حوادث، ولكل ما يسن فيه من الشرائع على ألسنة الرسل، عليهم السلام، يجد التلاؤم بين القدر الشرعي الحاكم، والقدر الكوني النافذ، تلاؤما بديعا، يجري في قناة الخير الذي أراده الله، عز وجل، بالمكلفين: عاجلا كان أو آجلا، فله في كل قدر كوني حكمة، ولو كان المقدور شرا عاجلا تتأذى منه النفس أو البدن، فيسدد فيه من اصطفاه لتحصيل مصالح شرعية تفوق مفسدته الكونية الآنية، وله في كل قدر شرعي حكمة، ولو كان في المقدور الشرعي نوع مشقة، إذ لا ينفك أي فعل آدمي عن نوع مشقة، ولو كان تحصيلا لشهوة خالصة، فالمشقة من العوارض المطردة في كل فعل، فمن نفرت نفسه من المشقة الشرعية حصل له من المشقة الكونية ما يتأذى منه، فلا يغني التحرر من قيد التكليف عنه شيئا، إذ هو ممتحن بأنواع من المحن والبلايا الكونية شاء أو أبى، فليكن الابتلاء: ابتلاء كرام ممتثلين لأمر الشرع الحاكم، لا: ابتلاء بهائم منقادين لأمر الكون النافذ الذي لا يخرج عن حكمه طائع أو عاصٍ.

وإنما تصح هذه العبارة المجملة بقيد: التجرد من حاجة النفس التي تعارض حكم الشرع على حد قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، فلا حاجة له إلى ما يسخط الرب، جل وعلا، إذ هو من الحظوظ النفسانية متجرد، ولا حاجة له إلى التلبس بأوصاف الطغيان بإظهار الاستغناء عن الرب، جل وعلا، فتلك دعوى تدل على عظم الجهل بقدر النفس، وعظم الفقر بالاشتغال بأسباب الغنى عن المغني، وعظم حظ النفس التي تبغي الرياسة والوجاهة ولو من طريق الزهادة!، فأغلب من غلا من أهل الطريق حتى بلغ بعضهم حد الخروج عن حد الشرع الحاكم، أغلب أولئك: طواغيت ينازعون الرب، جل وعلا، وصف غناه المطلق، بما أحدثوه من الطرائق الرياضية الغالية، فيمتنعون عن المطعوم والمشروب والمنكوح الحلال: زهدا، زعموا، مع

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير