تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يتلمسها فيبذل سببها المشروع مع إظهار الافتقار إلى المدبر، جل وعلا، واستحضار مقام التوكل على الوكيل، تبارك وتعالى، فذلك حظه من التدبير: بذل الأسباب المشروعة: كونية كانت أو شرعية على جهة التعبد، دون علم بالمآلات فليس ذلك، كما تقدم، إلا للرب جل وعلا.

فتمام تدبير الرب، جل وعلا، من تمام علمه، ونقصان تدبير العبد من نقصان علمه، وذلك من الأوجه الفارقة بين الرب، جل وعلا، والعبد، فبه يظهر كمال الرب المطلق في مقابل نقصان العبد المطلق، وهو أمر مطرد في كل الأوصاف المشتركة بينهما من: حكمة وقدرة ........ إلخ، فللرب، جل وعلا، منها ما يليق بجلاله، فله منها أشرف أجناس المعنى الذي تدركه العقول، والكيف الذي لا تطيق دركه، فذلك مما استأثر بعلمه الرب، جل وعلا، وللعبد منها ما يليق بذاته الأرضية الناقصة.

وذيل الدعاء بقوله: "وأنت علام الغيوب": فذلك بمنزلة التعليل لما تقدم من طلب الخيرة، فهو فرع عن كونه، جل وعلا، علام الغيوب، على حد المبالغة، فذلك وصف جليل يصح تعليق الحكم عليه، ففي عالم الشهادة لا يستشار إلا الخبير، ولله المثل الأعلى، وقد عرف الجزءان على حد القصر الحقيقي، فلا يعلم الغيب على حد الإطلاق إلا الله، عز وجل، وغاية من سواه: تلمس الغيب النسبي بأسباب مشهودة، أو ادعاء علم الغيب المطلق زورا، أو الإخبار ببعض المغيبات على حد الإعجاز في معرض تقرير النبوات، على حد قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا).

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وقال أبو حفص: لا يصح لأَحد الفقر حتى يكون العطاءُ أَحب إِليه من الأَخذ وليس السخاءُ أَن يعطى الواجدُ المعدمَ، وإِنما السخاءُ أَن يعطى المعدمُ الواجدَ". اهـ

ص67.

فالسخاء إنما يكون من القلة لا من السعة، ولا يعني ذلك ذم من يعطي ويبذل في السعة، وإن قصرت همته عن البذ حال القلة، فذلك مقام محمود، ولكنه لا يرقى إلى مقام السخاء، وليس كل البشر في ذلك سواء، وإنما تكون تلك الرتبة العلية لمن بذل أسباب الوصول إليها فزكى باطنه بالإخلاص والتوكل، وليس لعامة النفوس منهما كبير حظ، فهما مما يوهب ابتداء، ويكتسب إذا كان المحل قابلا، ولا يكون ذلك إلا بتوفيق واصطفاء من الرب، جل وعلا، فكثير قد يريد ذلك، ولكنه لا يقدر عليه، إذ لم يصطفه الباري، عز وجل، بتهيئة المحل، فاطلع على قلبه فعلم ما فيه من الدغل، فاقتضت حكمته ألا يهب من لا يستحق ما لا يستحق، وإلى الله الشكوى من فقرنا من تلك الأوصاف الشريفة التي سبق بها أمثال الصديق، رضي الله عنه، وإن لم يكن له ما لغيره من عباد الصحابة من الصلاة والصوم، فما سبقهم إلا بشيء وقر في قلبه صيره الصديق الأعظم، فعنده من علوم وأعمال القلوب ما صيره سيد الأولياء وخير الخلق بعد الأنبياء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء بمقتضى قدرته وحكمته.

وزكى ظاهره بأعمال الجوارح، فإن صلاحها من صلاح الباطن، فهو الدعوى وهي الدليل، ومن خطب الحسناء لم يغله المهر، فليست رخيصة أو قبيحة لتعافها النفوس فلا تطيب بمهرها، فلا تخطب إلا بدماء الشهداء وأموال المنفقين وأوقات العلماء، فهي شريفة لا تقبل ضرة وإن لم تصرح، إذ لم يجر العرف بذلك، والمشروط عرفا كالمشروط لفظا، فكيف وقد جاء التصريح: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)، فجعل الدنيا والآخرة على حد الشقاق، فكل في شق، على جهة المقارنة بين المتقابلات، على ما اطرد في آي التنزيل، فللدنيا خُطَّاب، وللآخرة خُطَّاب، وتباين الهمم فرع عن تباين الغايات.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير