ولذلك كان الإنفاق حال الصحة وهي مظنة الغفلة والحرص، والشح خوف الفقر، كان ذلك النوع من الإنفاق: أشرف أجناس الإنفاق فأسباب الإمساك حاضرة، وأسباب البذل غائبة، ومع ذلك كافح أولئك الصناديد جيوش الوساوس النفسانية وجيوش الوسواس الشيطانية، فاستعلوا على مراداتهم الآنية، طلبا لما هو آت، فصدقوا الوعد، وامتثلوا الأمر، وبذلوا من ضيق، خوفا من اليوم العبوس القمطرير.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وقال بعضهم: الفقير الذي لا يرى لنفسه حاجة إِلى شيء من الأَشياء سوى ربه تبارك وتعالى". اهـ
ص67.
فقد استعلى هو الآخر، عن حظوظه النفسانية، وتلك أعلى مراتب الزهد، فإن الاستعلاء على حظوظ الجسد قد يدركه كثير من أهل الرياضة، ولو كانوا على غير رسم التوحيد، بخلاف الاستعلاء على حظوظ النفس من الوجاهة والرياسة التي لم يسلم منها إلا آحاد المخلصين، فذلك أمر، كما تقدم مرارا، لا يجدي فيه كثير كلام أو كبير مقال، فحسب القائل الإشارة، والله حيي ستير، قد ستر من العيوب ما لو كانت له رائحة لأزكمت الأنوف.
فذلك عبد قد انقطعت حاجاته إلى غير ربه، فليس له فيما أيدي العباد من عرض، أو فيما على ألسنتهم من ثناء، ليس له في ذلك حاجة، وإنما حاجته أن يذكره الرب، جل وعلا، في الملأ الأعلى.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وسئل بعضهم عن الفقير الصادق فقال: الذى لا يَملك ولا يُملك". اهـ
ص67.
فيملك الدنيا في يده، ولا تملك هي قلبه، فليس السخاء حالة جيبية، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين عندنا في مصر، وإنما السخاء حالة نفسانية، فقد يكون العبد فقيرا لا يملك شيئا ولكنه شحيح يبخل بكل شيء!، إذ قد ملكت الدنيا قلبه وإن لم يحصل في يده من أسبابها شيء فصفقته أخسر صفقة، وحسرته على ما فاته من أسبابها مع ما جبل عليه من الحرص والشح أعظم حسرة، وفي المقابل: قد يكون غنيا يملك كل شيء في يده، ولكن قلبه قد استعصى على حظوظ النفس ووساوس الشيطان أن تأسره، فهو حر طليق، شريف الوصف، عظيم القدر، علي الهمة، نبيل الغاية، لا يرضى إلا بأشرف المقامات العلية فرعا عن تحليه بأشرف الملكات النفسانية.
وفي ذلك رد على غلاة أهل الطريق الذين حصروا الزهد في التجرد من أعراض الدنيا تجردا جعل كثيرا من المريدين: متسولين!، وليس ذلك من الزهد في شيء، إذ الزهد، كما تقدم، حالة نفسانية علية لا حالة جسدية دنية، فإهانة الجسد والحط من شأنه، بزعم الانتصار للنفس منه!، ليس من دين الرسل عليهم السلام في شيء.
ويقول رحمه الله:
"قال ذو النون: دوام الفقر إِلى الله مع التخليط أحب إلى من دوام الصفاء مع العجب". اهـ
ص67.
فإن الطاعة مع الكبر مظنة حبوط العمل، فضلا عن حصول الهلكة بوكل العبد إلى نفسه، والمعصية، وإن لم تكن مرادة شرعا، إلا أن لها من المآلات الآجلة ما يفوق مفسدة وقوعها، ولعل من أبرز تلك المآلات: كسر صولة النفس، بظهور عجزها عن مدافعة جيوش الشبهات والشهوات بقواتها، فلا غنى لها عن المدد الرباني في تلك الحرب الضروس، فيقبل العاصي على ربه إقبال المستنجد المستغيث، فأين ذلك المقام الشريف من مقام الاستعلاء بالطاعة، وليس ذلك قدحا في أهل الطاعة، فإن الطاعة مع الذل خير وأشرف من المعصية مع الذل، فالأولى مرادة شرعا، والثانية غير مرادة شرعا وإن كانت واقعة كونا. ولو لم يذنب العباد بمقتضى ما جبلوا عليه من الضعف والغفلة، لذهب الله، عز وجل، بهم، وأتى بأقوام يذنبون فيستغفرون لتظهر آثار صفات جماله من الرحمة والمغفرة فيهم، كما ظهرت آثار صفات جلاله فيهم بكتب المعصية عليهم كونا.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[22 - 09 - 2009, 08:44 ص]ـ
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وسئل سهل بن عبد الله، (التستري وهو من أئمة الزهاد المتقدمين): متى يستريح الفقير؟ فقال: إِذا لم ير لنفسه غير الوقت الذى هو فيه". اهـ
ص67.
¥