تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالفقير يضع نصب عينيه واجب الوقت، فليس ثم وقت يهدر، فإن الرحلة طويلة، وظرف الزمان ضيق، فلا يتسع لغير المسير إلى الله، عز وجل، فهو من الواجب المضيق، الذي لا يتسع ظرفه لسواه، فالبدار البدار يا أصحاب القلوب الحساسة المتحركة، ويا أصحاب العقول المسددة، فإنه قد تعرض الحاجة، وتفسد الآلة، فما كان اليوم في الإمكان، قد يصير غدا من المحال، وما عقد اليوم من إرادة الطاعة جزما، قد يفسخ غدا بشؤم المعصية حتما، فإن من شؤمها ضعف القلب وقعوده عن الإرادات النافعة، وضعف البدن وقعوده عن الأعمال الصالحة. ولكل وقت واجبه، فهو العمر الذي لن يعيش الإنسان بعده، فليكن في عمله كله مودعا، فذلك أدعى إلى أن يكون له متقنا. ولن يتأتى فعل أي طاعة إلا بإعانة الرب، جل وعلا، فمهما أوتي الإنسان من إرادة خير، وجودة فهم وتدبير، فإن تدبيره ليس إلا أخذا بالأسباب لا إجراء لها على حد التأثير، فغايته منها، كما تقرر مرارا، التعبد ببذلها، دون الجزم بوقوع مسبَّباتها، فذلك مما ليس له أو لكائن حادث، بل هو مما اختص به الرب الخالق، جل وعلا، فإجراء الأسباب على حد الاستقلال بالتأثير بما أودع الخالق من القوى المؤثرة في الأسباب: إجراء الأسباب على هذا الحد: من أخص أوصاف الرب، جل وعلا، فهو الذي خلق القوى المؤثرة، وهو الذي خلق الإرادات الجازمة، وهو الذي خلق آلات التكليف الفاعلة، فالفعل والفاعل من خلقه، والإرادات كلها تبع لإرادته، فإذا لم يستعن المكلف على واجب وقته بمن هذا وصفه من القدرة والعلم والحكمة، فبمن يستعين؟!، فتدبيره للعبد أنفع للعبد من تدبيره لنفسه، وصنعه له خير من صنع نفسه لنفسه، فلسان حال السالك: اللهم دبرني فإني لا أحسن التدبير، اللهم اصنع لي فإني أخرق، فلا يستغني عن الرب الحكيم المدبر إلا من سفه نفسه، إذ ظن بها الكمال العلمي والعملي، وهو بوصف الجهل والعجز أليق، إلا أن يتداركها الرب، جل وعلا، بمقتضى فضله، فيزكيها بعلم نافع تصح به إراداتها وعمل صالح تعمر به آلاتها، فـ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)، فقد أفلح من زكى باطنه بالعلم النافع، وزكى لسانه بذكر الرب الخالق، وزكى جوارحه بالصلاة للإله الكامل، فإيمانه: عقد قلب وقول لسان وعمل جارحة، فهو على منهاج السنة سالك، وما بقي إلا أن يحط رحاله في دار القرار فيرتاح من وعثاء سفر الهجرة إلى الرحمن جل وعلا.

قال ابن القيم رحمه الله:

"وقال أبو بكر ابن طاهر: من حكم الفقير أَن لا يكون له رغبة، وإِن كان لا بد فلا تجاوز رغبته كفايته". اهـ

ص67.

فزاده من أسباب الكون: الكفاف، فلا إسراف ولا تقتير، فطعامه الحلال اليسير، دون تكلف فلا بشم، وشرابه زلال فلا امتلاء، ونكاحه: طيب فلا تتوق نفسه إلى خبيث، فتلك رغبته التي تسد فاقته.

وأما زاده من أسباب الشرع فهو: زاد التوسع في تناول الطيبيات، فلا يكل القلب واللسان والبدن عن التأله، على حد الرفق في الإيغال، لئلا ينقطع السالك قبل بلوغ الغاية، فذلك من تلبيس إبليس الذي رضي من ابن آدم بالجفاء أو الغلو.

ثم انتقل ابن القيم، رحمه الله، إلى فصل في: تحقيق نعت الفقير: فقال:

"فجملة نعت الفقير حقاً أَنه المتخلِّي من الدنيا تطرفاً والمتجافي عنها تعففاً. لا يستغني بها تكثراً، ولا يستكثر منها تملكاً، وإِن كان مالكاً لها بهذا الشرط لم تضره، بل هو فقير غناه فى فقره، وغنى فقره فى غناه .. ومن نعته أَيضاً أَن يكون فقيراً من حاله وهو خروجه عن الحال تبرياً، وترك الالتفات إِليه تسلياً، وترك مساكنة الأَحوال والرجوع عن موافقتها فلا يستغني بها اعتماداً عليها ولا يفتقر إِليها مساكنة لها". اهـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير