تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالأسباب لا تتجاوز يده لتتسلل إلى قلبه: تسلل اللصوص إلى البيت العامر في لحظات الغفلة التي تغادر فيها جند القلب الثغور، فيسهل على العدو اختراقها، وذلك أمر لا يسلم منه بشر، إلا من كان على رسم العصمة بالوحي، فإذا انتبه الملك من غفلته سارعت الجنود إلى طرد فلول العدو الذي يخنس عند ورود مدد الذكر على القلب واللسان، فلا يدعي الفقير لنفسه حالا يرد به جيوش الشبهة والشهوة، فهو يضعف عن المكافحة، إلا أن يستمد من القوي، جل وعلا، أسباب الدفع بسلاح الذكر الماضي، والرفع بسلاح الاستغفار الماحي، فهو بريء من حوله فلا حول له إلا بالرب، جل وعلا، فهو الذي يملك ناصية عدوه فإن شاء منعه منه بمقتضى فضله، وإن شاء أرسله عليه بمقتضى عدله، فهو فقير إلى الرب، تبارك وتعالى، ليستعصم به، فقير إلى الشرع ليستمسك به، فهو الذريعة إلى الدخول في جوار الرب، جل وعلا، فلا يستطيع الشيطان إيذاءه، فإذا خرج من جوار الملك، فادعى لنفسه ما ليس لها من الأحوال الشريفة، وُكِل إليها، فاستحق الطرد والإبعاد، ففي نفسه كبر واستغناء أشبه كبر إبليس الذي أبى السجود فاستحق اللعنة والطرد، فإذا راجع واستغفر، دخل في جوار الكريم، جل وعلا، الذي لا يرد الخارج عن أمره الشرعي، وإن تكرر خروجه، فبابه مفتوح لمن أراد الانطراح بين يديه ساجدا مستغفرا، فـ: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فناداهم بوصف العبودية المضاف إلى ضميره تأليفا لقلوبهم وتهدئة لخواطرهم، فـ: (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)، فاليأس من روحه ذريعة إلى الكفران، ثم ذيل بالإطناب في معرض بيان مغفرته الذنوب، وإن عمت، فيغفر في دار التكليف كل ذنب: فذلك عموم لا مخصص له، بخلاف دار الجزاء فوصفها: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)، فلا يغفر الله، عز وجل، الشرك إذ هو أعظم الظلم فالتجاوز عن فاعله: قدح في العدالة الإلهية، وذلك من المحال بداهة. ومع مغفرته العامة: يرحم برحمته الخاصة، فيتجاوز ابتداء، فذلك من تخلية المحل، ثم ترد التحلية بالرحمة الخاصة للمسرفين، فتقديم المغفرة تهدئة لخواطر المذنبين بدرء المفسدة بالمغفرة قبل جلب المصلحة بالرحمة.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"ومن نعته أَنه يعمل على موافقة الله والصبر والرضى والتوكل والإِنابة، فهو عامل على مراد الله منه لا على موافقة هواه وهو تحصيل مراده من الله، فالفقير خالص بكليته لله عز وجل، ليس لنفسه ولا لهواه في أَحواله حظ ولا نصيب، بل عمله بقيام شاهد الحق وفناءِ شاهد نفسه، قد غيبه شاهد الحق عن شاهد نفسه فهو يريد الله بمراد الله، فمعَّوله على الله، وهمته لا تقف دون شيء سواه، قد فنى بحبه عن حب ما سواه وبأَمره عن هواه وبحسن اختياره له عن اختياره لنفسه". اهـ

ص68.

فليس له من نفسه حظ، بل مراده مراد ربه الشرعي، وليس في قلبه شعبة لغير المحبوب لذاته لكمال أوصافه، جل وعلا، فهو على حد الإخلاص والنصح، قد خلص باطنه من آفات النوايا الفاسدة، وخلص ظاهره من آفات الأعمال الحادثة على غير رسم الوحي الشارع.

وله من الفناء أصح أنواعه: فهو فان في حب الله، عز وجل، امتثالا وتصديقا، لا سفها وتخليطا، كحال أهل الحلول والاتحاد.

يقول ابن القيم، رحمه الله، في معرض بيان حال السالك:

"هو في واد والناس في واد، خاضع متواضع سليم القلب، سلس القياد للحق، سريع القلب إِلى ذكر الله، بريء من الدعاوى لا يدعي بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله، زاهد في كل ما سوى الله، راغب في كل ما يقرب إِلى الله، قريب من الناس أَبعد شيء منهم، يأْنس بما يستوحشون منه ويستوحش مما يأْنسون به، متفرد فى طريق طلبه لا تقيّده الرسوم ولا تملكه العوائد ولا يفرح بموجود لا يأْسف على مفقود، من جالسه قرت عينه به ومن رآّه ذكرته رؤيته بالله سبحانه". اهـ

ص68.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير