تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فله من الوحشة من غير الله، عز وجل، ما يعدل الأنس به، جل وعلا، فقد بلغ الغاية في الاستغناء عن غيره ببلوغ الغاية في الافتقار إليه وحده، فهما أمران متلازمان شرعا وعقلا، فـ: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ): فذلك تمام الاستغناء عن الغير، و: (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ): فذلك تمام الافتقار إلى الرب جل وعلا.

والقلب إناء: فإذا امتلأ بشراب التوحيد على حد الافتقار إلى الواحد المألوه بحق، جل وعلا، لم يعد فيه محل لأشربة التثليث والتشريك فهو عنها غني بقدر افتقاره إلى الغني تبارك وتعالى. فالاستغناء به مئنة من الاستغناء عن كل ما سواه من الأغيار، ومن ذاق حلاوة التوحيد شقت عليه مكابدة تجرع مرارة التشريك.

ويواصل ابن القيم، رحمه الله، فيقول:

"قد حمل كله ومؤنته عن الناس، واحتمل أذاهم وكف أذاه عنهم، وبذل لهم نصيحته وسبل لهم عرضه ونفسه لا لمعاوضة ولا لذلة وعجز، لا يدخل فيما لا يعنيه ولا يبخل بما لا ينقصه، وصفه الصدق والعفة والإِيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال، لا يتوقع لما يبذله للناس منهم عوضاً ولا مدحة، لا يعاتب ولا يخاصم ولا يطالب ولا يرى له على أَحد حقاً ولا يرى له على أَحد فضلاً، مقبل على شأْنه مكرم لإِخوانه بخيل بزمانه حافظ للسانه". اهـ

ص68.

فقد كفى غيره مؤنته، فلا تمتد يده بالسؤال إلا إلى بارئه، ولا يوقع غيره في الحرج بتكرار السؤال، وهو مع ذلك قد احتمل أذى الناس، فذلك ابتلاء عام لم يسلم منه أحد، ولو سلم منه بشر لسلم الأنبياء عليهم السلام فهم أشد الناس احتمالا لأذى البشر، وأكفهم للأذى عنهم فـ: (لا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله، عز وجل).

فلا يعاتب إذ كثرة العتاب تفسد الود، وهي مظنة حظ النفس، إذ يرى لها حقا قد قصر المعاتَب في أدائه.

فالفقير السالك: لا يرى لنفسه حقا أو فضلا على إخوانه، على حد قول يحيى بن معين: "ما رأيت مثل أحمد، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير"، فأحمد قد ملئ: عملا وعملا، أدبا وفضلا، فزاده ذلك تواضعا لربه، جل وعلا، على حد الذل والافتقار، وتواضعا لإخوانه: مع تمام الصيانة فلا يذل الشريف إلا لخالقه، عز وجل، وبقدر علم العبد بكمال ربه ونقصان حاله تعظم في عينه المنة الربانية، أن اختصه الله، عز وجل، بنعمة الإسلام وخلع عليه خلعة الإيمان فذلك حاله مع مولاه.

وأما حاله مع إخوانه فهو: رؤية القليل منهم كثيرا، فتعظم في عينه صنائعهم له، وتحقر فيها صنائعه لهم، فهي لهم عليه حق واجب، فذلك من كمال إكرامهم، ومع ذلك لا يسعى إلا فيما ينفعه، فهو من أبخل الناس بزمانه، فرسمه الشح في إنفاق رأس ماله، فلا يضع دنانيره ودراهمه إلا في صفقة رابحة، فاجتمع فيه الضدان على نحو عجيب: فهو كريم من وجه، بخيل من آخر، إذ الجهة منفكة، فكريم حيث يحسن الكرم ببذل المال والوقت مواساة للإخوان، وبخيل حيث يحسن البخل بالوقت بصيانته من الإهدار فيما لا ينفع من فضول المجالس والمحافل، فتلك من قطاع طريق القلب، فهي مظنة انفساخ الهمم ووهن العزائم، إذ الخلطة تشتت جيوش القلب بتعدد الأغيار، والعزلة تجمعها فيصير الجيش على قلب رجل واحد، قد اتحد مطلوبه فهو:

"مسافر في ليله ونهاره ويقظته ومنامه لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إِلى مطلبه، قد رفع له علم الحب فشمر إِليه، وناداه داعي الاشتياق فأَقبل بكليته عليه، أَجاب منادي المحبة إِذ دعاه حي على الفلاح، ووصل السرى فى بيداءِ الطلب، فحمد عند الوصول سراه، وإِنما يحمد القوم السرى عند الصباح". اهـ

ففي نهاية السفر: يحمد السائر السرى، فلو لم تحترق نفسه ابتداء بكير الابتلاء الشرعي بالتكليف بالشرائع، وكير الابتلاء الكوني بالتقدير للمصائب، ما أشرقت انتهاء بنور ربها، وعلى قدر المشقة يكون الأجر، وعلى قدر المحبة يكون الشوق.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[23 - 09 - 2009, 08:32 ص]ـ

ثم أشار ابن القيم، رحمه الله، إلى قاعدة شريفة عظيمة القدر فقال:

"قاعدة شريفة عظيمة القدر:

حاجة العبد إِليها أَعظم من حاجته إِلى الطعام والشراب والنفس بل وإِلى الروح التي بين جنبيه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير