تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

اعلم أَن كل حي سوى الله فهو فقير إِلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي من جنس النعيم، واللذة والمضرة من جنس الأَلم والعذاب. فلا بد من أَمرين:

أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذى ينتفع به ويتلذذ به، والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه.

فها هنا أَربعة أَشياء: أَمر محبوب مطلوب.

والثاني: أمر مكروه مطلوب العدم.

والثالث: الوسيلة إِلى حصول المحبوب.

والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه الأُمور الأَربعة ضرورية للعبد بل ولكل حي سوى الله، لا يقوم صلاحه إِلا بها". اهـ

ص73.

فلا بد من غاية تتحرك إليها النفس الحساسة المتحركة، فإنها لا تنفك عن مطلوب مراد لذاته يلائم قدرها، فمنها نفوس لا يلائمها إلا الغايات الشريفة، فهي لا ترضى بالمآلات الدنية، فأحوالها: ابتغاء وسائل شرعية طلبا لرضا رب البرية، تبارك وتعالى، المألوه المراد لذاته، فرعا عن كمال أسمائه وصفاته، فهي على رسم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فاتقوا الله، باجتناب المساخط سلبا، وابتغوا إليه الوسيلة، بمباشرة المراضي إيجابا، فتخلية تعقبها تحلية، ولا تنفك الوسيلة عن جهاد للنفس والشيطان والعدو الإنسي الظاهر، فهي مع الشبهات العلمية والشهوات العملية في كفاح قلبي دائم، ومع العدو الظاهر في كفاح بدني تراق فيه دماء الموحدين برسم الانتصار لدين رب العالمين. وعلة مباشرة تلك الأعمال الجليلة: طلب الفلاح في الدارين: فعيش هني وموت سوي، وبعث إلى الجنان بفضل الرب العلي.

فالنفوس قد أجمعت على جلب المباهج النفسانية إيجابا، فيحصل من يحصل من الأسباب ما يراه وسيلة لذلك، فذانك: الأولان: معرفة المحبوب المراد، وتحصيل الوسيلة الجالبة له، وقد أجمعت، أيضا، على دفع الهموم بتحصيل الأسباب الدافعة لها، فجيوش الهموم تغزو كل قلب، فذلك من الابتلاء الذي لم يسلم منه أحد، ولكنها لا تظهر إلا على القلوب الضعيفة التي عطلت: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)، فلم تعد العدة الإيمانية ولم ترابط على ثغور الطاعات، ولم تبعث سرايا الاستعاذة والاستغفار، لإرهاب العدو ولما يقع القتال، فالدفع أولى من الرفع، والهجوم خير وسيلة للدفاع، فذانك الآخران: معرفة المكروه، وتحصيل الوسيلة الدافعة له.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"إِذا عرف هذا فالله سبحانه وتعالى هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه ولا معين على المطلوب غيره، وما سواه هو المكروه المطلوب بعده وهو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع للأُمور الأَربعة دون ما سواه، وهذا معنى قول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة: 5]، فإن هذه العبادة تتضمن المقصود المطلوب على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه. فالأَول من مقتضى أُلوهيته، والثاني من مقتضى ربوبيته، لأَن الإِله هو الذى يؤله فيعبد محبة وإِنابة وإِجلالاً وإِكراماً، والرب هو الذى يرب عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إِلى جميع أَحواله ومصالحه التى بها كماله، ويهديه إِلى اجتناب المفاسد التى بها فساده وهلاكه". اهـ

ص73.

فالباري، عز وجل، هو المراد لذاته، المحبوب على حد التأله، المعبود على حد الانفراد، فهو الإله الشارع، الذي تخضع له القلوب والأبدان كونا، ولا معين لها على الخضوع الشرعي بملازمة الأمر والنهي إلا هو، فيستعين السالك بقدره الكوني الذي خضعت له كل الكائنات، على امتثال قدره الشرعي الذي قامت به الأنفس الشريفات على حد التأله رغبة ورهبة للمعبود بحق جل وعلا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير