وذلك مقام: "إياك نعبد وإياك نستعين" كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فـ: "إياك نعبد": على حد التصدير بالعلة الغائية، فهي غاية كل العقلاء المسددين، والغاية وإن كانت متأخرة في الوجود الخارجي إلا أنها مقدمة في التصور الذهني فلا تنهض النفس إلى مباشرة الفعل إلا بعد تصور نتائجه، فإن لكل مقدمة نتيجة، فذلك من البرهان العقلي الصريح، فالمقدمة: بداية، والنتيجة: نهاية، فـ: إياك نعبد: نهاية المأمول، و: "إياك نستعين": السبب المبذول، فمهما أوتينا من صحة التصورات الباطنة والآلات الظاهرة فلا تحول لنا عن السكون والخمول إلى فعل المأمور، ولا قوة لنا على مباشرة سببه بعقد الهمم على حد الاستيثاق، فلا يعتريها الانفساخ، لا حول ولا قوة لنا على ذلك إلا بالله، العلي العظيم، فذلك من أوصاف جلاله، إذ قهر القلوب والأبدان بما قدر لها من الإرادات والأفعال، فمن شاء أقام قلبه على الطريقة العلمية، وأقام بدنه على الطريقة العملية، فالاستطاعة الكونية التي يكون بها الفعل وجوديا خارجيا بعد كمال تصوره عدميا ذهنيا، لا تكون إلا بمشيئة الله، عز وجل، فهي من جنس هداية التوفيق والإلهام التي يصطفي لها الرب، جل وعلا، من شاء من عباده فضلا، بمقتضى قدرته على خلق فعل الطاعة وحكمته في اختيار بعضٍٍ دون بعضٍ له، فليس البشر على حد سواء، وليست المحال كلها قابلة لنور الوحي النازل والشرع الكامل. فالقلوب أوعية، كما تقدم مرارا، منها الشريف الذي يحوي علوم الرسالات وجوامع كلم النبوات، والجوارح أوعية منها ما يحوي الأعمال الصالحة التي يتذرع بها إلى تزكية محال التكليف، فهل يخطر ببال عاقل فضلا عن مؤمن، أن تلك الروح التي تستولي عليها الأعراض النفسانية من أجناس الهموم والأحزان، وذلك البدن الذي تستولي عليه الأعراض الجسدية من أجناس الأمراض والأسقام، هل يخطر ببال أحد أن ذينك الضعيفين يقدران على القيام بمهام التكليف الإلهي دون معونة الرب القدير جل وعلا؟!، فالعاقل يدرك تمام الإدراك أنه: لا إله إلا الله على حد التأله الاختياري إلا فرعا عن: لا رب سواه على حد الاضطرار القهري، فقلوبنا بين إصبعين من أصابعه، وأبداننا لقدره الكوني خاضعة، فيجري عليها من الأعراض الكونية ما علمه الرب، جل وعلا، أزلا، فجرى به القلم في اللوح المحفوظ، فلا استقلال لنا بخلق أفعالنا وإن كان لنا فيها الاختيار الذي يصح به التكليف، ففقرنا إليه مزدوج: فقر إلى ربوبيته إقامة للقلوب والأبدان على حد الصحة فلا تعتل بما يرد عليها من الآفات النفسانية والجسدية، وفقر إلى ألوهيته، بما شرع على ألسنة رسله، عليهم السلام، فبها تحصل التزكية والصيانة لتلك الآلات التي وهبها الرب، جل وعلا، لنا، بمقتضى فضله ومنته. فهو الذي تفضل وامتن بعطايا الربوبية، وهو الذي سن وشرع أحكام الألوهية.
فـ: "إياك نعبد": متعلق ألوهيته، فهي المرادة لذاتها، إذ هي التوحيد العملي الظاهر الذي يصدر عن التوحيد العلمي الباطن، فذلك جار على ما تقدم من التصدير بالعلة الغائية، إذ العمل: غاية، والعلم: وسيلة، فليس كمال النفس في علم نظري مجرد، كما زعم من زعم من الفلاسفة اليونانيين والإسلاميين، و: "إياك نستعين": متعلق ربوبيته، فهي الوسيلة، المرادة لغيرها، فتأخرت عن الغاية، على التفصيل المتقدم، فإياك أستعين باستمداد آثار صفات قدرتك وجلالك، لأفردك بالعبادة استجلابا لآثار صفات جمالك من مغفرة ساترة، ورحمة سابغة.
و: "إياك نعبد": حق الإله، و: "إياك نستعين": مطلوب العباد، وحق الإله الواجب أشرف بداهة من مطلوب العباد، فذلك وجه آخر لتقديم العبادة على الاستعانة.
وقوله رحمه الله:
"والرب هو الذي يرب عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إِلى جميع أَحواله ومصالحه التى بها كماله، ويهديه إِلى اجتناب المفاسد التى بها فساده وهلاكه". اهـ
ص73.
فعناية الرب، جل وعلا، بعبده: عناية خلق كوني، وإلهام شرعي، على حد قوله تعالى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى): فأعطى كل شيء خلقه كونا ثم هداه إلى أسباب البقاء الكونية وأسباب الزكاة الشرعية.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وفي القرآن سبعة مواضع تنتظم هذين الأَصلين: أحدها: قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ} [الفاتحة: 5]، الثاني: قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] [الشورى: 10]، الثالث: قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، الرابع: قوله تعالى: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} [الممتحنة: 4]، الخامس: قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى الَّذِى لا يُمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58]، السادس: قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَاب} [الرعد: 30]، السابع: قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} ". اهـ
ص73، 74.
فـ: إياك أعبد ألوهية وإياك أستعين ربوبية.
و: عليك توكلت ربوبية وإليك أنيب ألوهية.
و: اعبده: ألوهية، وتوكل عليه ربوبية.
و: توكل على الحي: ربوبية، فحياته جامعة لأوصاف كماله التي تستمد منها عطايا القلوب والأبدان، وسبح بحمده: ألوهية.
و: رب المشرق والمغرب: ربوبية، و: لا إله إلا هو: ألوهية.
فله تمام الألوهية، كما تقدم مرارا، بأفعال عباده، فرعا عن تمام ربوبيته بأفعاله.
وتتبع ذلك الباب الجليل في كلام الرسل عليهم السلام أمر تفنى في تحصيله الأعمار، فبه قامت السماوات والأرض، فما أقيمت إلا بأمره الكوني: أمر الربوبية: إيجادا وعناية، وما أقيمت إلا لتوحيده بمقتضى أمره الشرعي: أمر الألوهية: استسلاما وديانة.
والله أعلى وأعلم.
¥