تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مآرب كانت فى الشباب لأهلها ******* عذاباً فصارت فى المشيب عَذَاباً". اهـ

ص75.

فاللذة الحاصلة بحب وعبادة غير الله، عز وجل، لذة آنية من جهة القدر، وهمية من جهة الكيف، فسرعان ما تنقضي فيعقبها من الآلام النفسانية ما يذهب أثرها المخدر، فيلجأ مدمن اللذات الوهمية إلى تناول جرعات جديدة، يحصل بها لحظات أخرى من النشوة، فإذا أفاق عاودته الحسرة، فيتناول جرعة ثالثة فرابعة ............. إلخ، إلى أن يفسد قلبه، الذي شراه بثمن بخس لحظات معدودة من اللذة الموهومة.

يقول ابن القيم رحمه الله:

" {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22]، فإن قوام السموات والأرض والخليقة بأن تؤله الإله الحق، فلو كان فيهما إله آخر غير الله لم يكن إلهاً حقاً، إذ الإله الحق لا شريك له ولا سمى له ولا مثل له، فلو تأَلهت غيره لفسدت كل الفساد بانتفاء ما به صلاحها، إذ صلاحها بتأَله الإله الحق كما أَنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار ويستحيل أَن تستند فى وجودها إِلى ربين متكافئين، فكذلك يستحيل أَن تستند فى بقائها وصلاحها إِلى إِلهين متساويين". اهـ

ص75.

وهذا ما اصطلح أهل العلم على تسميته بـ: دليل التمانع، فالتمانع في الربوبية الكونية ذريعة إلى التمانع في الألوهية الشرعية، فلا إلهين اثنين فرعا عن لا ربين اثنين، فوحدة الأمر الكوني مئنة من وحدة الأمر الشرعي.

فكما يفسد الكون بتعدد الآلهة لتعارض إراداتها: تفسد النفس بتعدد الآلهة التي لحكمها تخضع ولها تتأله حبا وعبادة.

فتوحيد المعبود: صلاح للدنيا والدين، فالكون بسنته الكونية قائم، والعبد بسنته الشرعية آله، فما ثم إلا آله على حد الذلة ومألوه على حد العزة.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"إِذا عرف هذا فاعلم أَن حاجة العبد إِلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه ولا في العمل له ولا في الحلف به ولا في النذر له ولا في الخضوع له ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب أَعظم من حاجة الجسد إِلى روحه والعين إِلى نورها. بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به". اهـ

ص75.

فذلك جار على ما تقدم من حاجة القلب إلى الشرع، وحاجة البدن إلى الكون، ومتعلق القلوب أشرف بداهة من متعلق الأبدان، فصلاح القلب: صلاح عاجل يستقيم به أمر المكلف في تحصيل أسباب الشرع فهو مادة صلاح العالم علويه وسفليه، وتناول أسباب الكون حفظا لآلات التكليف من التلف لتنهض بما كلفت به، فحفظها ليس مرادا لذاته، كما ظن أهل الترف، الذين بذلوا في تحصيل أسباب صلاحها ما شغلهم عن الغاية العظمى من خلقها، فحفظ الدين مقدم على حفظ البدن إذ هو الضرورة الأولى، بل إن ما يليه من الضرورات له تابع وفي جدوله نازل، فأولئك قد صيروا الوسيلة الفانية: غاية شريفة، وليس تناول الحلال الطيب مما يلحق النفس به ذم، بل هو مما أمر به المرسلون على حد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، فكلوا من الطيبيات لصيانة آلات التكليف، وعمروها بصالح الأعمال، فذلك المراد لذاته، و: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)، فلهم من المطاعم والمشارب والمناكح أطيبها، ولمن سار على طريقتهم منها ذلك، وبقدر السير على السنة الشرعية يحصل تمام الانتفاع بالسنة الكونية، إذ الشرع يزكي الروح والبدن، فيحصل لتابعه كمال اللذة والاستمتاع بعلوم الشرع النازلة، وأسباب الكون النافعة.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فإِن حقيقة العبد: روحه وقلبه ولا صلاح لها إِلا بإلهها الذي لا إِله إِلا هو، فلا تطمئن فى الدنيا إِلا بذكره وهى كادحة إِليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إِلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإِكرامه لها ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك. بل ينتقل من نوع إِلى نوع ومن شخص إِلى شخص ويتنعم بهذا في وقت ثم يتعذب به ولا بد في وقت آخر، وكثيراً ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك.

وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأَظفار التي تحكه، فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد فى ضرره، وهو يؤثر ذلك لما له فى حكها من اللذة، وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وأَلم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب، والعاقل يوازن بين الأَمرين ويؤثر أَرجحهما وأَنفعهما، والله الموفق المعين، وله الحُجَّة البالغة كما له النعمة السابغة. والمقصود أَن إِله العبد الذي لا بد له منه فى كل حالة وكل دقيقة وكل طرفة عين فهو الإِله الحق الذي كل ما سواه باطل، والذي أَينما كان فهو معه، وضرورته إليه وحاجته إِليه لا تشبهها ضرورة ولا حاجة بل هي فوق كل ضرورة وأَعظم من كل حاجة، ولهذا قال إِمام الحنفاء: {لآ أُحِبّ الاَفِلِينَ} [الأنعام:76] والله أعلم". اهـ

ص75، 76.

فنقل فؤادك حيث شئت من الهوى: فما الحب إلا للحبيب الأكمل، وأكمل محبوب، هو الرب المعبود، جل وعلا، فهو الذي تحبب إلينا بآثار صفات جماله مع كمال استغنائه عنا، فلا ينفعه صلاحنا ولا يضره فسادنا، فعجبا لمن استبدل حب الفاني بحب الباقي، مع عظم مضرة التعلق بالفاني، فحسبك من ذلك: ذهاب النفس عليه حسرات بفقده، وذلك أمر كائن لا محالة، بخلاف من علق قلبه بالباقي الذي لا يزول، وبذلك احتج إمام الموحدين على قومه فقال: (لآ أُحِبّ الاَفِلِينَ)، فلا أحب غائبا مآله الفناء، وإنما تعلق قلبي بالشهيد الذي وصفه البقاء فلا يعتريه فناء أو نقصان.

ومهما أحببت من مخلوق فإنه غائب عنك في بعض الأحوال، مفارق لك باعتبار المآل، بخلاف الآخر، عز وجل، الذي له الآخرية الأبدية المطلقة فلا يفنى ولا يبيد.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير