تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 09 - 2009, 04:09 م]ـ

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فصل: فى بيان أصلين عظيمين مبنى عليهما ما تقدم:

وهذا مبنى على أصلين:

أحدهما: أن نفس الإِيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاءُ الإِنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما عليه أَهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقوله من يقول: إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته بل لمجرد الامتحان والابتلاء كما يقوله منكرو الحكمة والتعليل، أو لأجل التعويض بالأجر لما فى إيصاله إليه بدون معاوضة منه تكدره، أو لأجل تهذيب النفس ورياضتها واستعدادها لقبول العقليات كما يقوله من يتقرب إلى النبوات من الفلاسفة بل الأمر أعظم من ذلك كله وأجل". اهـ

ص76.

فالإيمان هو الغذاء النافع الذي به يقوم القلب، فليس الابتلاء به محض مشيئة ربانية نافذة يصير فيها التكليف مشقة مرادة لذاتها، بل المشقة عليه طارئة، فهي غير مرادة لذاتها، فليس الابتلاء به على حد الوصف المتقدم، بل هو جار على مقتضى المشيئة والحكمة، فبالمشيئة يظهر جلال الرب، جل وعلا، وبالحكمة يظهر جماله، وهو الأليق بمقام بيان أوجه انتفاع القلب بالشرع، فله من صلاح الأحوال الباطنة وعظم اللذات النفسانية بمباشرة أسباب التزكية العلمية والعملية ما يفوق مفسدة وقوع نوع مشقة في تحصيل أسبابها، فلا ينفك أي فعل بشري، ولو كان لذة محضة، لا ينفك عن نوع مشقة.

فالعمل مراد لذاته: فهو سبب مؤثر في حصول الأجر، لا سبب كاشف لتعلق الأجر بالمأجور إذا فعل المأمور واجتنب المحظور، كما يقول منكرو الحكمة والتعليل، الذين ردوا الأمر إلى محض المشيئة دون نظر إلى الحكمة، على الضد مما وقع من نفاة القدر الذين غلوا في جانب الحكمة وجفوا في جانب القدرة.

أو وسيلة لتحصيل مراتب نفسانية علية يحصل فيها للنفس كمال اللذة العلمية على حد ما قرره الفلاسفة الذين غلوا في جانب العلم فصيروه المراد لذاته، وجفوا في حق العمل الذي يتذرع إليه بوسيلة تحصيل نافع العلوم سواء أكان ذلك: في الأصول أم في الفروع.

فالعلم، وإن كان شريفا في ذاته إلا أنه لا يتحقق به كمال المنفعة إن لم يشفع بالعمل المصدق له، فهو دعوى بينتها العمل.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"بل أوامر المحبوب قرة العيون وسرور القلوب ونعيم الأرواح ولذات النفوس وبها كمال النعيم، فقرة عين المحب فى الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذَلِكَ وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأَما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والدعوة إِلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه، فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم". اهـ

ص76.

فقرة العين في امتثال أمر الشرع، وإن شق على النفس، فتجد ألمه ابتداء على حد الابتلاء والتمحيص، فإذا صبر على ألم معالجة ما لم تألف نفسه: انقلب الألم لذة، والحزن فرحا بكمال التأله إلى الرب المعبود جل وعلا.

وتأمل حال من اعتاد الإحسان إلى الناس كيف يكون انشراح صدره: لذة عاجلة في دار الابتلاء فهي على رسم عاجل البشرى، وهي طرف من اللذة الآجلة الدائمة في دار القرار، فمن وجدها في الدنيا يكاد بها يستكفي، فكيف إذا ذاق لذة القرب من الله، عز وجل، في دار النعيم السرمدي فلا نصب ولا لغوب؟!.

ويواصل، رحمه الله، في بيان تلك الحال الشريفة:

"ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأَمل إِقدام القوم على قتل آبائهم وأَبنائهم وأَحبابهم ومفارقة أَوطانهم وبذل نحورهم لأَعدائهم ومحبتهم للقتل وإيثارهم على البقاءِ وإيثار لوم اللائمين وذم المخالفين على مدحهم وتعظيمهم، ووقوع هذا من البشر بدون أَمر يذوقه من حلاوته ولذته وسروره ونعيمه ممتنع، والواقع شاهد بذلك، بل ما قام بقلوبهم من اللَّذة والسرور والنعيم أَعظم مما يقوم بقلب العاشق الذي يتحمل ما يتحمله فى موافقة رضى معشوقه، فهو يلتذ به ويتنعم به لما يعلم من سرور معشوقة به:

فيا منكراً هذا تأَخر فإِنه ******* حرام على الخفاش أَن يبصر الشمسا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير