تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالأصل الثاني هو: كمال ذلك النعيم الذي أدرك المؤمنون منه طرفا في دار الابتلاء على حد قول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا يشبه شيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء)، فذاقوا أشرف اللذات: لذة العلم بالمعبود، جل وعلا، على حد إدراك المعنى دون خوض في الكيف الذي عجزت العقول عن دركه، ليصح التكليف في دار الشهادة بالإيمان بغيب مطلق قد أخبرت به الرسل عليهم السلام وقامت البينات الواضحات الموضحات على صحته، فامتاز المؤمن من الكافر، بما وافق العلم الأزلي الأول الذي سطر في اللوح المحفوظ، وظهر معلوم الرب، جل وعلا، في عباده، ليصح تعلق الثواب والعقاب به، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولن يشاء مؤمن الإيمان إلا إذا شاءه الله، عز وجل، له فضلا، ولن يشاء كافر الكفر إلا إذا شاءه الله، عز وجل، له عدلا.

وذاقوا لذة الجسد العارضة بما باشرته قوى الإحساس الظاهر من استمتاع بالمطعوم والمشروب والمنكوح. وذاقوا لذة الوجاهة الموهومة فخلعت عليهم ألقاب الفخامة والجلالة والإمارة الفانية!.

فذلك حال المكلفين في دار الفناء، فلذاتهم من جنسها وعلى وصفها: زائلة فانية إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة من العلوم الإلهية والأحكام الشرعية، فذلك ميدان تنافس المسددين من المكلفين، على حد قوله تعالى: (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)، ففي ذلك النعيم السرمدي الدائم فليتنافس المتنافسون، والتنافس فيها إنما يكون بتحصيل أسبابها من نافع العلم الإلهي وصالح العمل الشرعي في دار الابتلاء. فمن نافسك في النعيم الفاني فألقه له فهو خسيس لا قدر له لتبذل له همتك على حد المنافسة، ومن نافسك في النعيم الباقي فنازعه، فهو شريف عالي الهمة، ترتفع بمنازلته الهمم، فيبذل كل متنافس جهده في تحصيل قصب السبق، فيقع من مرادات الرب، جل وعلا، الشرعية، ما تظهر به حكمته، كما يقع من أفعال الشر بمقتضى إرادته الكونية ما تظهر به قدرته، فيظهر من ذلك من كمال الرب، جل وعلا، ما يستوجب وقوع الغاية العظمى من إيجاد هذا الكون المشهود: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، فما خلقتهم إلا ليظهر فيهم وصف الكمال الرباني بالاستغناء عنهم، وتمام الإنعام عليهم بأسباب الكون والشرع، فيؤديهم ذلك إلى صرف أجناس التأله له على حد الانفراد والكمال، فكمال ألوهيتهم فرع عن كمال ربوبيته جل وعلا.

وأما حالهم في دار البقاء فحال أخرى:

حال: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ): فلهم كمال اللذة العلمية: أشرف أجناس اللذات برؤيته عز وجل وسماع كلامه وقربه ورضوانه، فـ: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، فالتنكير للتقليل، فأقل رضوان منه أكبر من كل النعيم الأخروي المحسوس، وإن كان ذلك النعيم شريفا، فليس في دار النعيم لذة وضيعة. فمقابل نقصان لذات الدنيا يجد المؤمن في الآخرة كمالها: فلذة العلم قد تحققت برؤية أعظم وأشرف معلوم: الرب، جل وعلا، فوجد العبد من آثار أوصاف جماله ما لا يحده عقل، ولا يتصوره خيال، فكل ما ورد بالخاطر من صور الكمال، فكمال الرب، جل وعلا، يخلافه، إذ قد بلغ، تبارك وتعالى، من الكمال: المنتهى، وذلك مما يتصور علما لا كيفا، فالعقل يحده على جهة التفكر في المعنى لا التحقق، فيتفكر العبد في كمال ذاته وصفاته، جل وعلا، دون طمع في تحقق ذلك تحقق البصر لكيف المبصر، والسمع لكيف المسموع، فذلك، كما تقدم، مما لا طاقة لمخلوق في دار الابتلاء به، بل لا طاقة لهم على إدراك ذلك على جهة الإحاطة في دار النعيم، على حد قوله تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

وفي المقابل:

فاحتجابه عن أعدائه، فلا يرونه أبدا، أو لا يرونه رؤية التنعم، أو لا يراه الكافرون ابتداء، ويراه المؤمنون والمنافقون أولا، ثم يحجب المنافقون، على خلاف بين أهل العلم، فذلك الاحتجاب أشد أنواع العذاب ألما.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير