تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

و: (مّا يَفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ): فالسياق على حد المقابلة استيفاء لأوجه القسمة العقلية إمعانا في بيان طلاقة القدرة الإلهية فهو الممسك المرسل، فيمسك الرحمة عمن شاء عدلا، ويرسلها على من شاء فضلا، فذلك من إرساله الكوني النافذ على حد قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)، و: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ).

وإرساله وإمساكه ليس لمجرد الفعل بلا حكمة، على حد من نفى حكمة الباري، عز وجل، بدعوى أن أفعاله لا تعلل بالأغراض، وهو لفظ مجمل إذ الغرض يحتمل: إثبات الحكم الباهرة في حق الخالق عز وجل وحصول المصالح العظيمة في حق المخلوق، فذلك مما تصح بل تجب نسبته إلى الله، عز وجل، فهو مما جاء به الرسل عليهم السلام، فوصف الحكمة من أوصاف الجمال التي تواتر التنزيل بإثباتها، ويحتمل: الحاجة كما يقع في عالم الشهادة فيفعل المكلف الفعل لتحصيل حاجة يفتقر إليها، فذلك مما لا تصح نسبته إلى الله، عز وجل، لتمام غناه عن خلقه، بل هو المغني لهم، فوصف الغنى، كما تقدم في أكثر من موضع، لازم في نفسه متعد إلى غيره، فهو الخالق للأسباب بقدرته المجري لها بحكمته، فوصفه بالحاجة إلى سبب أو غرض: قدح في كمال وصفه بالغنى، بل هو نعت له بضده من الفقر الذي يناقض وصف الربوبية، فالرب المهيمن بقدره النافذ لا يكون إلا غنيا عن مربوبيه، فلن يبلغوا نفعه بسبب شرعي من طاعة أو سبب كوني من مال أو جاه فينفعوه، ولن يبلغوا ضره بمعصية فيضروه، على حد ما جاء في حديث أبي ذر، رضي الله عنه، مرفوعا، وفيه: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي)، ففعله فعل: العزيز ذي القدرة النافذة، الحكيم ذي الحكمة البالغة، فالأول من جلاله، والثاني من جماله، وكلاهما مئنة من كماله.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"فالعبد لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع إِلا بإِذن الله، فالأَمر كله لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، هو مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاءُ، المتفرد بالضر والنفع والعطاءِ والمنع والخفض والرفع، ما من دابة إِلا هو آخذ بناصيتها، أَلا له الخلق والأَمر تبارك الله رب العالمين". اهـ

ص78.

فليس العبد إلا سببا، فمن علق قلبه بالسبب على حد التوكل عليه: وكل إليه، ومن وكله الله، عز وجل، إلى غيره، فصار مستنده خلقا يفتقر هو الآخر إلى ما يقيمه من أسباب الكون: من علق قلبه بالسبب على الحد المذكور: فهو هالك بفساد إراداته الباطنة وأفعاله الظاهرة، إذ لا ينفك من هذا وصفه عن نوع افتقار باطن وظاهر لمن وكل إليه من الخلق.

وأما التوكل على الله، عز وجل، فهو باب آخر، لم يطرقه إلا آحاد المصطفين من عباد الله المخلصين الذين طهروا قلوبهم من مادة التعلق بغير الله، عز وجل، مادة فساد الحال والمآل، فاستئثار غير الله، عز وجل، بشعبة من القلب، شغل للمحل بما يفسده، فلا يجتمع مع ما ينفعه من التوكل على الله، عز وجل، على حد الإفراد، ولذلك ابتلي الخليل عليه السلام بالبلاء العظيم بإضجاع الذبيح عليه السلام وإمرار السكين على نحره استخراجا لمادة التعلق بالولد من قلبه فمرتبة الخلة لا تقبل الشراكة، بخلاف مرتبة المحبة، ولذلك أحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصديق، رضي الله عنه، ولم يتخذه خليلا إذ المحل مشغول بخلة أغنى الشركاء عن الشرك، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أولى الناس بوصف التوحيد فلا يتصور وقوع الشرك من الأنبياء عليهم السلام، وإن افترضه المجادل في معرض جدال الخصم افتراضا عقليا محضا، على حد قوله تعالى: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فذلك من قياس الأولى، كما تقرر في أكثر من موضع، فإذا كان الشرك محبطا لأعمال الأنبياء، عليهم السلام، إن افترض صدوره منهم، فهو محبط لعمل من دونهم من باب أولى، فالنص في معرض البيان العام لمقادير الأعمال على حد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير