"وهذا أَمر معلوم بالاعتبار والاستقراء أَن كل من أَحب شيئاً دون الله لغير الله فإِن مضرته أَكثر من منفعته وعذابه أَعظم من نعيمه، ويزيد ذلك إيضاحاً أَن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته، فإِنه يخذل من تلك الجهة. وهذا أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء أَنه ما علق العبد رجاءَه وتوكله بغير الله إِلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغيره إِلا خذل، قال تعالى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 81 - 82]، وقال تعالى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّعَلّهُمْ يُنصَرُونَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مّحْضَرُونَ} [يس: 74 - 75].
وقال تعالى عن إِمام الحنفاء أَنه قال للمشركين: {إِنّمَا اتّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً مّوَدّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25]، ولما كان غاية صلاح العبد فى عبادة الله وحده واستعانته وحده كان فى عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته". اهـ
ص78، 79.
فمن أحب غير الله: عذب به، وإن حصل له نوع تنعم عارض به، فلا يعدل ذلك ألم التعلق بغير الله، عز وجل، على حد الاشتغال بالمخلوق الفاني عن الخالق الباقي.
ولذلك وجب التحرز من حظ النفس في باب: الحب، ولو كان خالصا ناصحا في ذات الباري، عز وجل، فإن النوايا قلب، فقد تتبدل فيطرأ عليها ما يفسدها، فيحدث للنفس منها حظ تغضب إذا منعته بعد أن كانت خالصة لا يغضب صاحبها لنفسه، وإنما ينظر بعين الاحتساب إذا بدر من المحبوب في الله، جفاء أو تقصير، على حد قول يَحْيَى بْن مُعَاذ رحمه الله: حَقِيقَة الْحُبّ فِي اللَّه أَنْ لَا يَزِيد بِالْبِرِّ وَلَا يَنْقُص بِالْجَفَاءِ.
فمن يطيق هذا الشرط؟!.
وقوله: "ولما كان غاية صلاح العبد فى عبادة الله وحده واستعانته وحده كان فى عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته": أمر مطرد منعكس، فكمال الصلاح دينا ودنيا في تعليق القلب بالخالق، عز وجل، فذلك الطرد، وعظم فسادهما في تعليق القلب بالمخلوق فذلك العكس.
فوصف الرب جل وعلا:
"ومما يوضح الأَمر فى ذلك ويبينه أَن الله سبحانه غنى حميد كريم رحيم، فهو محسن إِلى عبده مع غناه عنه يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إِليه سبحانه ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإِحساناً وجوداً محضاً فإنه رحيم لذاته محسن لذاته جواد لذاته كريم لذاته كما أَنه غني لذاته قادر لذاته حي لذاته، فإِحسانه وجوده وبره ورحمته من لوازم ذاته لا يكون إِلا كذلك، كما أَن قيامه قدرته وغناه من لوازم ذاته فلا يكون إِلا كذلك". اهـ
ص79.
فأوصاف كماله، تبارك وتعالى، ذاتية لا يتصور انفكاكها عنه، إذ طروء النقص: سلب لوصف الكمال لزوما وذلك: أمر محال لذاته، ولذلك لا تتعلق أوصاف الذات بالمشيئة، فهي أزلية لا يحدث منها شيء، بخلاف صفات الأفعال التي يحدث الله، عز وجل، من آحادها ما شاء كيف شاء متى شاء، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ". فأنواعها على ذات الحد من الأولية، وآحادها حادثة متعلقة بالمشيئة الربانية.
ومن كان ذلك وصفه فلا يخشى فقرا بعد غنى لبيخل كما يبخل أغنياء البشر خوفا من طروء وصف الفقر بعد الغنى، فهو، جل وعلا، الغني في ذاته، المغني لغيره، فليس له حاجة إليك ليتودد إليك بإحسانه على حد التزلف طمعا في غرض طارئ، كما يقع من البشر الذين يتوددون إلى بعضهم تحصيلا لحظوظ أنفسهم، ولو كانت حظوظا شريفة، كمن يحسن إلى غيره طمعا في الثواب الأخروي، فذلك، عند التحقيق، حظ نفس يفتقر إليه، فإحسانه ليس لذات من أحسن إليه، بل هو لنفسه، على حد قوله تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ)، فلا يراد لذاته إلا الرب، جل وعلا، وكل من سواه فإنما يراد لغيره تحصيلا لغرض شريف أو دنيء.
وأما وصف العبد:
"وأَما العباد فلا يتصور أَن يحسنوا إِلا لحظوظهم، فأَكثر ما عندهم للعبد أَن يحبوه ويعظموه ليجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة، وذلك من تيسير الله وإِذنه لهم به، فهو في الحقيقة ولي هذه النعمة ومسديها ومجريها على أَيديهم، ومع هذا فإِنهم لا يفعلون ذلك إِلا لحظوظهم من العبد، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواءٌ أَحبوه لجماله الباطن أَو الظاهر فإِذا أَحبوا الأَنبياءَ والأَولياءَ فطلبوا لقاءَهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وكذلك من أَحب إِنساناً لشجاعته أَو رياسته أَو جماله أَو كرمه فهو يحب أَن ينال حظه من تلك المحبة". اهـ
ص79.
فكل محبة لغير الله، عز وجل، لا بد فيها من حظ للنفس، فلن يحبك أحد لذاتك إلا إذا اتخذك معبودا!، وإنما يحبك بقدر ما يصله من نفعك سواء أكان في دينه أم دنياه، فالإحسان إلى الناس ذريعة إلى استئلاف قلوبهم.
ولكل همته: فمن علت همته وعظمت نفسه فإنه لا يتطلع إلا إلى حظ نفسه الديني، فيحب الأنبياء عليهم السلام لما وصله منهم من خبر الوحي الصادق وحكمه العادل، ويحب العالِم لما يستفيده من علمه من جليل المسائل ودقيقها، ويحب العابد لما يجده في قربه من أنس وانشراح صدر.
ومن سفلت همته وصغرت نفسه فإنه لا يتطلع إلا إلى حظ نفسه العاجل من شهوة فرج أو بطن أو مال أو جاه موهوم يزول بزوال الرياسة الدنيوية، بخلاف الرياسة الدينية فهي ولاية لا عزل عنها كما أثر عن أبي الوليد الباجي رحمه الله.
والله أعلى وأعلم.
¥