وبعد تقرير العموم على حد الإجمال، جاء التفصيل المستوفي لأجناس القلوب على حد يحاكي التوشيح، لو أجري النص مجرى: القلوب ضربان: ضرب أقامه الله، عز وجل، وضرب أزاغه.
فإذا شاء الرب، جل وعلا، بمقتضى قدرته النافذة وحكمته البالغة إقامة القلب على حد الشرع، فذلك من فضله، ولا راد لفضله فهو الذي يختص به من شاء من عباده، بسبق علمه بصلاح قلوبهم، فهي محال قابلة لنور الوحي الهادي. فذلك الوجه الأول من القسمة العقلية.
وإذا شاء إزاغة القلب عن الشرع، فذلك من عدله، ولا راد لكلماته الكونية النافذة في عباده: هداية إو إضلالا، فهو الذي يحجب عمن شاء من عباده نور الوحي الهادي الذي امتن به على الصنف الأول لسبق علمه، أيضا، ولكن بفساد قلوبهم فهي محال غير قابلة للوحي الزكي المزكي لما يرد عليه من المحال المصطفاة لا المحال المستثناة.
وكل ذلك جار، كما تقدم مرارا، على سنن القدرة النافذة والحكمة الباهرة، فليس الإيتاء والمنع بقدرة قاهرة لا حكمة فيها، بل هي قدرة بوصف الحكمة مشفوعة، فلا يعطى الهدى، على حد الإلهام، إلا من يستحقه لما اختصه به من مزيد فضل ومنة أن هيأ قلبه لقبول أسباب الهداية علما والانتفاع بها عملا، ولا يمنعه، إلا من لا يستحقه لجريان عدله فيه فلم يختصه بما اختص به الأول من الفضل والمنة، وإن كان الكل على حد سواء في حصول البيان ببعث الرسل عليهم السلام، فهداية الإرشاد في حقهم كائنة، وذلك مما يقطع حجة الكفار والعصاة بسبق قدر الله، عز وجل، فيهم.
وجاء بالمصدر المؤول: "أن يقيمه" و: "أن يزيغه": إذ هو أبلغ في تقرير قدرته، عز وجل، على القلوب، هداية أو إضلالا، فضلا عن تمحض مدخول: "أن": للاستقبال فهو مئنة من تجدد ذلك الوصف وحدوثه على سبيل الدوام، وذلك، أيضا، مما يزيد المعنى تقريرا، فـ: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، فمن جملة ذلك: إقامته، عز وجل، لقلوب على حد الطاعة، وإزاغته لأخرى على حد الغواية، وما ظلم، جل وعلا، أحدا فـ: (مَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، إذ الكل خلقه، فأكرم منهم من أكرم بالهداية، وحجبها عمن أبعد من أهل الغواية، فليس لكليهما عليه حق سابق، فقد دل الكل على سبيل الهداية ثم تفضل بمعونة بعض دون بعض ممن حكم عليهم بالخذلان. فلو صح أن لهم عنده حقا مستقرا لقيل بأنه قد ظلم من أضله، تعالى الملك عز وجل عن وصف الظلم علوا كبيرا، ولا يظلم إلا المفتقر إلى ما بيد المظلوم، والرب، جل وعلا، هو الغني على حد الإطلاق، فلا يفتقر إلى سبب لينتزعه من أيدي عباده، بل هو الممتن عليهم بسائر أسباب الكون المقيمة لأبدانهم وأسباب الشرع المقيمة لقلوبهم. فذلك أصل جليل في رد شبه من احتج بالقدر على الشرع، أو قاس أفعال الرب، جل وعلا، الصادرة عن كمال أوصافه على أفعال العباد، فجعل ذلك من الظلم، وإنما يصح ذلك في عالم الشهادة، إذ لا يتصور فيه أن يحمل أحد أحدا على فعل ثم يجازيه عليه على حد التأثير المباشر في إيقاعه، وليس كل ما صح في عالم الشهادة يصح في عالم الغيب، فقياس الغائب على الشاهد: قياس فاسد لوجود الفارق، وأي فارق أعظم من الفارق بين ذات الرب، جل وعلا، وأسمائه وصفاته وأفعاله والقدر منها من جهة، وذات وأسماء وصفات وأفعال المخلوقين من جهة أخرى، فالأولى صادرة عن كمال أوصاف الذات القدسية من القدرة والحكمة والعلم والغنى، والثانية صادرة عن ضد ذلك مما جبل عليه البشر من أوصاف النقص الذاتي، فكيف يقاس من كماله ذاتي على حد الإطلاق على من نقصانه ذاتي على حد الإطلاق؟!.
ومما ذكره أيضا:
قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "اللَّهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك".
فصدر الدعاء بالتوسل بوصف من أوصاف أفعال الرب، جل وعلا، الدالة على جلاله، فتقليب القلوب: هداية وإضلالا، مئنة من كمال قهره، جل وعلا، لعباده بأوصاف جلاله القاهرة، وفي مقام التضرع يكون الثناء على المدعو بأوصاف القدرة والقهر أليق، فيا من ذلك وصفه من الجلال فالقلوب خاضعة لأمره الكوني: ثبت القلوب على أمرك الشرعي بمقتضى فضلك ومنتك فذلك من أوصاف الجمال التي أنت لها أهل، فمن غيرك يمتن على العباد بعطايا الكون والشرع؟! فتوسلي إليك بوصف جلالك لينالني أثر من آثار صفات جمالك.
وقال بعض السلف: "مثل القلب مثل الريشة فى أَرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن".
فذلك أيضا، جار على ما تقدم من نفاذ قدرته الكونية القاهرة في عباده، فالقلوب زائغة إلا أن يقيمها، ضالة إلا أن يهديها، تتقلب في فلوات الابتلاء بمقتضى كلماته الكونيات النافذات، فلا غنى لها عن امتثال مقتضى كلماته الشرعيات الحاكمات لتعتصم بها من جيوش الشبهة والشهوة المسلطة عليها بالقدر الكوني تحقيقا لمعنى الابتلاء الرباني، إذ بمدافعة تلك الجيوش الجرارة تستخرج عبوديات القلب والبدن على حد يحصل به مراد الرب، جل وعلا، الشرعي من عباده، مراد: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
والتشبيه جار مجرى التشبيه المرسل المفصل إذ ذكر وجه الشبه: "تقلبها الرياح ظهراً لبطن" وذلك أبلغ في بيان مراد المتكلم، إذ الإطناب في البيان مظنة ارتفاع الإشكال أو الالتباس في الفهم.
وهو من جهة أخرى: تشبيه تمثيلي، إذ انتزع صورة مركبة لريشة في أرض فلاة تقلبها الريح، لصورة قلب بيد مقلبه، جل وعلا، فهو أيضا، يتقلب في أقداره الكونية وأقداره الشرعية.
والله أعلى وأعلم.
¥