عز وجل، لصاحبها الثبات، فإن الخذلان، كل الخذلان، هو الركون إلى النفس اعتمادا، والعدول عن التبري من حولها إلى حول موجِدها، جل وعلا، فهو الذي يملك وحده إقامتها حال الشدة فضلا، وهو الذي يملك وحده إزاغتها عدلا، فانصراف القلب عنه حال السعة تلهيا، وانصرافه عنه حال الضيق جزعا وتسخطا، ذلك الانصراف: من الأدواء المهلكة المؤذنة بفساد الدين والدنيا، فلا يطيب له عيش في دنيا، ولا يكون له نصيب في آخرة، فأي خسران أعظم من ذلك. وسؤال الله، عز وجل، السلامة والعافية في الأديان والأبدان، كما تقدم مرارا، أصل جليل في هذا الباب، فإن دفع النوازل بالمشروع من الدعاء وصالح العمل أولى من رفعها بعد وقوعها فقد يعجز الإنسان عن ذلك، والعاقل لا يعدل بالسلامة ابتداء شيئا.
&&&&&
وقال أيوب رحمه الله: "أَدركت الناس وما كلامهم إِلا: إِن قضى، إِن قدر". اهـ
فقوله: "أدركت الناس": له حكم الوقف على من أدركهم، وهم الصحابة، رضي الله عنهم، فهو حكاية لإجماعهم، إذ ذلك من الأصول التي لم يقع فيها خلاف بين صدر الأمة، كسائر أصول الدين العلمية والعملية، فإنه لم يقع بينهم، ولله الحمد والمنة، خلاف في أصل كلي جامع: علمي ومنه أصل القدر: الأصل السادس من أصول الإيمان، أو عملي كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع سابقة.
فتنزل: "أل" في: "الناس": منزلة العهد الذهني إذا أراد قائلها: أناسا بأعينهم هم: الصحابة، رضي الله عنهم، أعلم فئام هذه الأمة بمباني الوحي ومعانيه، فلإجماعهم من المنزلة العالية في الدين ما ليس لإجماع غيرهم، إذ هم أقرب إلى الصواب، بل هم على الصواب يقينا باعتبار مجموعهم، في كل مسائل الدين فلا يخرج الحق عن مجموعهم وإن لم يعم جميعهم، فليست أقوال آحادهم على حد العصمة، مهما بلغوا من الرتب العلية في خير أديان البرية، فلا معصوم بعد النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما تثبت العصمة لمجموعهم، وهذا، وإن كان قدرا مشتركا بين كل طباق الأمة إلا أن لهم منه، كما تقدم، القدح المعلى.
ولو قيل بأن "أل": للعهد الذهني إذا أريد بها: أهل العلم، إذ هم الناس، عند التحقيق، على حد:
هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ
لو قيل هذا، لكان له وجه، فيريد بذلك حكاية إجماع أهل العلم الذين أدركهم من الصحابة والتابعين.
وعلى كل التقديرات: فإن حكاية الإجماع على إثبات القدر مئنة من قدم أصول الحق، فليس حادثا لا أصل له كسائر المقالات التي حدثت بعد انقضاء القرن الأول، ومقالة القدر على وجه الخصوص: من المقالات التي حدثت أواخر عهد الصحابة، كما في حديث يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن مع ابن عمر، رضي الله عنهما، فقد كان ذلك في النصف الثاني من المائة الأولى بعد الهجرة، فأيوب، رحمه الله، ممن أدرك الأمر الأول القديم، إذ كانت الأمة مجمعة على إثبات القدر على حد التكليف لا الجبر المسقط للتكليف، ثم أدرك الأمر التالي الحادث على يد معبد الجهني ومن بعده غيلان الدمشقي، فحمل معبد تلك المقالة عن نصراني يدعى: "سسويه" أو: "سنسويه"، أو: "سوسن" كما ذكر ذلك الخلال، رحمه الله، في "السنة" بإسناده من قول علي بن سعيد النسوي:
"أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني، وسسلوا رجل من الأساورة". اهـ
"السنة"، (3/ 526).
وهو عند الآجري، رحمه الله، في "الشريعة" من قول عبد العزيز العطار، رحمه الله، بلفظ:
"لا أعلم يومئذ أحدا يتكلم في القدر غير معبد، ورجل من الأساورة يقال له شيشنويه".
وعند اللالكائي، رحمه الله، في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" من قول الأوزاعي رحمه الله:
"أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن كان نصرانيا فأسلم، ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد". اهـ
وغيلان هو: غيلان الدمشقي الذي ناظره عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، فأظهر التوبة ثم عاد إلى الخوض في مسألة القدر زمن الخليفة هشام بن عبد الملك فصلبه الأخير.
وعنده، أيضا، من قول يونس بن عبيد رحمه الله:
"أدركت البصرة وما بها قدري إلا سنسويه، ومعبد الجهني، وآخر ملعون في بني عوافة"
¥