تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويطلق على النقل كما في هذه الآية فإما أن يقال بأن الملائكة تستنسخ أعمال بني آدم يوما بيوم على حد القضاء المعلق، بخلاف القضاء المبرم المسطور في اللوح المحفوظ، فصحائف الملائكة مما يغير السبب من دعاء ونحوه المسطور فيها لمن بلغ إيمانه حد اليقين، فتيقن الإجابة ولم يتعجلها.

وإما أن يقال بأنها تستنسخ أعمالهم على حد الإحصاء فيكون الاستنساخ من عالم الشهادة المنظور إلى عالم الغيب المحجوب، فالملائكة والكتبة منهم: مما لا تدركه الحواس الظاهرة، وإن وجدت من تأييدهم وروحهم الناصر ما تلمس آثاره توفيقا وسدادا في الدنيا والآخرة، فضلا عما يعاينه المهاجر في آخر سفر الهجرة من تنزل الملائكة بالبشرى على حد قوله تعالى: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ).

قال ابن القيم رحمه الله:

"وقال علي بن أَبي طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى: {إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، خلق الله الخلق كلهم بقدر، وخلق الخير والشر، فخير الخير السعادة وشر الشر الشقاوة". اهـ

ص84.

فالله، عز وجل، هو خالق الخير والشر، على حد التقدير في عالم الغيب، والإيجاد في عالم الشهادة فكلاهما يطلق عليه وصف: الخلق.

فيطلق على فعل الإيجاد على حد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ).

ويطلق على المخلوق الموجود بفعل الخلق والإيجاد، على حد قوله تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).

ويطلق على التقدير الأزلي السابق للخلق الإيجادي على حد قول زهير:

وَلأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْضُ ******* القَوْمِ يخْلُقُ ثمَّ لا يَفْرِي

أي: وبعض الخلق يقدر الشيء ولا يقدر على فعله، بخلاف ممدوحه الذي يقدر وينفذ ما قدره.

وتفسير القدر بالخلق هو من باب: تفسير الكل بالبعض، إذ مرتبة الخلق هي المرتبة الرابعة من مراتب القدر فالخلق آخر مراتب القدر إذ قبله: العلم والكتابة والمشيئة، فبه يظهر المقدر فيصير وجوديا في عالم الشهادة بعد أن كان عدميا في علم الله، عز وجل، الأول فلم تتعلق به أحكام في هذه الدار إذ العين أو الفعل لا يتعلق بهما حكم شرعي حتي يصيرا محلا له، ولا يكون ذلك بداهة إلا بعد وجودهما في عالم الشهادة، فمن رحمة الله، عز وجل، أنه لم يؤاخذ عباده بسابق علمه فيهم، ولما يكونوا شيئا، فلا يقع التكليف إلا إذا وجد محله من المكلف المستوفي لشرائطه من عقل وبلوغ وصحة آلات ........ إلخ، ولا يقع الثواب أو العقاب على الفعل إلا إذا وقع في عالم الشهادة، فصح تعلق الثواب أو العقاب به، وعليه حمل نحو قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)، فذلك علم ثان غير العلم الأول الأزلي، فقد علم الله، عز وجل، أزلا ما هم فاعلون، وعلم ما انطوت عليه قلوبهم من الإيمان أو النفاق، وذلك، كما تقدم، مما لا يتعلق به مدح أو ذم، لكونه عدما محضا، فلما وقع في عالم الشهادة تعلق به علم الله، عز وجل، تعلقا ثانيا، هو: التعلق الوجودي المتجدد بتجدد ظهور معلومات الرب، جل وعلا، في عالم الشهادة، فكلما أحدث العباد فعلا وجوديا في عالم الشهادة أحدث الرب، جل وعلا، له تعلقا بعلمه المحيط على حد الإحصاء لا الاستئناف كما زعم القدرية نفاة العلم الأول، فالعلم الأول: ثابت أزلا، فلا يتبدل ولا يتغير، والعلم الثاني: حادث من جهة تعلقه بآحاد المعلومات الكائنة في عالم الشهادة على ما قدره أزلا من وجودها على هيئات وأقدار محددة، فجاء العلم الثاني موافقا للعلم الأول، وجاءت الشهادة مصدقة للغيب الأول، فوجودها على حد ما قدر لها أزلا وهي آنذاك: عدم لما يوجد.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير