وقد يقال بأن تفسير القدر بالخلق هو تفسير له بأثره المشهود، فيكون من باب إطلاق المسبَّب وإرادة سببه، فالقدر الأول ذريعة إلى وقوع الخلق المشهود على الحد المقدر أزلا، إذ قد مر كل كائن حادث مخلوق بمراتب القدر الأربعة، فكان معلومة في علم الله، عز وجل، الأزلي، ثم كتب في اللوح المحفوظ على حد الإبرام، ثم شاء الله، عز وجل، خلقه، ثم كان الخلق الذي أخرج ذلك المعلوم العدمي إلى عالم الشهادة الوجودي.
فالقلم جار على العبد:
جريانا كونيا: إذ قد جرى القلم بكل المقدورات حال الكتابة في اللوح المحفوظ، وجرى حال خلق آدم بمقدورات ذريته من: الخير والشر وسائر المقدورات، وجرى حال بعث الملك لنفخ الروح.
ثم جرى عليه جريانا شرعيا: ببعث الرسل عليهم السلام بالكلمات الشرعيات الحاكمة التي كتب الله، عز وجل، منها: ألواح الكليم، عليه السلام، على حد قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ).
ثم جرى عليه جريان الإحصاء فالملائكة الكتبة تحصي أعماله: خيرا أو شرا، على حد قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وذلك عموم يرجح قول من قال بأن الكتبة تكتب كل ما يلفظ به العبد وإن كان مما لا يتعلق به مدح يستوجب الثواب، أو ذم يستوجب العقاب.
وخير الخير: السعادة: فالنجاة في دار الحساب: خير ما قدر لمهتد مسدد، وإن لاقى في دار التكليف من أجناس الابتلاء بالآلام ما لاقى.
وشر الشر: الشقاوة: فالهلاك في دار الحساب: شر ما قدر لضال مخذول، وإن باشر في دار التكليف من أجناس النعيم ما باشر.
يقول الحافظ ابن كثير، رحمه الله، في تفسير قوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ):
"أي: كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك.
وقال قتادة: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ} كأن لم تنعم.
وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن؛ ولهذا جاء في الحديث: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا، فيُغْمَس في النار غَمْسَة ثم يقال له: هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا. ويؤتى بأشد الناس عذابًا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول: لا". اهـ
قال ابن القيم رحمه الله: "وفى صحيح مسلم عن أَبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن حصين: أَرأَيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون، أَشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أَو فيما يستقبلون مما أَتاهم به نبيهم وثبتت به الحجة؟ قال: قلت: لا، بل فيما قضى عليهم ومضى قال: أَفيكون ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت فزعاً شديداً، وقلت: إِنه ليس شيء إِلا خلقه وملكه: {وَلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، فقال: سددك الله إِنما سَألتك لأُحرز عقلك". اهـ
ص84، 85.
فقول أبي الأسود، رحمه الله، جار على ما تقدم، من تفسير الظلم بأنه: التصرف في ملك الغير، بخلاف تصرف المالك في ملكه، فإنه ليس من الظلم في شيء، فكيف إذا كان المتصرف هو: القدير فلا يعجزه شيء، الحكيم فلا يعتري فعله ما يعتري أفعال غيره من السفه أو النقص الذي لا يسلم منه فعل أحد فله كمال التدبير لعباده فرعا عن كمال حكمته في إجراء المقدورات على الحد الذي به يكون صلاح العباد حالا ومآلا وإن ظهر في مبادئه من الآلام ما يستخرج به من الملذات الآجلة ما تصلح به المآلات، فكمال النهايات من نقصان البدايات، العليم فحكمته فرع عن علمه الأزلي الأول، فقد أحاط بكل المعلومات على حد التفصيل، على حد قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، ولا تكون حكمة في تدبير الشيء إلا فرعا عن علم بكل أحواله على حد التدقيق كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع سابقة. فكيف إذا كان المتصرف على هذا الحد من الكمال المطلق؟!.
فـ: (وَلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ): فذلك الطباق بالسلب، أو المقابلة بين النفي والإثبات مئنة من كمال قدرته وحكمته، فلا يسأل عن أفعاله على القول بأن: "ما" مصدرية على تأويل: لا يسأل عن فعله، أو عن مفعولاته على القول بأن: "ما" موصولة قد حذف عائد صلتها تخفيفا على ما اطرد في التنزيل على تأويل: لا يسأل عن الذي يفعله، وليس ذلك فرعا عن قدرة بلا حكمة كما يقع من الجبابرة في عالم الشهادة فلا يسألون لكمال قدرتهم وإن كانوا أسفه الخلق عقولا، فذلك معنى منتف بداهة في حق الباري، عز وجل، فله من معاني الثناء: الكمال المطلق ذاتا وصفاتا، فقدرته أعظم قدرة على الإطلاق، وحكمته أعظم حكمة على الإطلاق .............. إلخ، وكل ذلك فرع عن كون ذاته القدسية أعظم الذوات على الإطلاق.
والله أعلى وأعلم.
¥