تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والخلق يترددون بين: (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ): ففريقا هدى هداية الإلهام، وفريقا حقت عليهم الضلالة، بمقتضى العلم الأول، فليسوا بأهل للتسديد وإن خوطبوا بالتكليف على حد البيان، وقد ذيل ذلك الحكم في حقهم بعلته: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)، فحسن الفصل على ما اطرد مرارا من الارتباط الوثيق بين العلة ومعلولها، فعندهم من فساد التصور ما حملهم على استحسان اتخاذ الشياطين الذين يوحون إلى أوليائهم بكل ما فيه فساد العلم والعمل، على استحسان اتخاذهم أولياء على حد الطاعة والمتابعة والانتصار لهم كما يتداعى أهل الباطل لنصرة باطلهم، فذلك الفساد الحكمي إنما نشأ من فساد تصور سابق له، فهم مع كل ما هم فيه من الفساد الحالي ومع ما ينتظرهم من الفساد المآلي: (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)، بل يرمون المهتدين بعين ما تلبسوا به من وصف الضلال، على حد قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ).

قال ابن القيم رحمه الله:

"قال ابن عباس: إِن الله سبحانه بدأَ خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً ثم قال: {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِن} [التغابن: 2]، ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأَ خلقهم مؤمن وكافر". اهـ

ص85.

فهو الذي خلقكم: تقديرا في عالم الغيب، وإيجادا في عالم الشهادة، فمنكم على حد القسمة الثنائية المستوفية لشطري القسمة العقلية في باب الأسماء والأحكام، فمنكم: مؤمن، ومنكم: كافر، على ما اطرد مرارا من عموم ربوبية الباري، عز وجل، إذ له من القدرة والحكمة ما نوع به أجناس وأوصاف خلقه، فمنهم، على القول بأن: "من" بيانية جنسية، أو بعضهم على القول بأنها تبعيضية، أو منهم على حد ابتداء غاية الخلق، فقد ابتدأ الله، عز وجل، خلقهم على حد: الإيمان لمن امتن عليه بالهداية، فاهتدى فضلا، والكفران لمن حجب عنه الهداية، فأضله عدلا، ولا مانع من الجمع بين كل تلك المعاني، إذ: "من" تدل عليها جميعا، والسياق يحتملها على حد توارد المعاني على لفظ واحد من باب الاشتراك اللفظي عند من يقول بجواز دلالة المشترك على كل معانيه دفعة واحدة لا على سبيل البدل، أو هو من باب: الاشتراك المعنوي إذ لا تخلو كل تلك المعاني من معنى كلي جامع هو ابتداء الغاية كما أشار إلى ذلك ابن هشام، رحمه الله، في "المغني".

والشاهد أن العباد على حد الإيمان فضلا، أو الكفران عدلا.

وأورد على ذلك نقص الاستقراء: فمنهم: مؤمن، ومنهم: كافر، ومنهم: فاسق، ومنهم: ظالم ....... إلخ، فانخرم الاستقراء، وقد كان ذلك الاستقراء عمدة الخوارج الذين كفروا الجماعة المسلمة، فأحدثوا، كأي مبتدع، مقالة لا مسنتد لها من نص محكم أو عقل مُحْكِم للأصول العقلية الصحيحة فلا تعدو كونها شبهة مستندها نص باطل، أو نص صحيح غير صريح حملوه على تأويل بعيد يصب في قناتهم فهمهم البحث عن دليل لمدلول أصلوه ابتداء فنظرهم في نصوص الوحي لا على جهة الافتقار إليها لحصول الهداية وإنما على جهة البحث عن لفظ مشتبه فيها ينتصرون به لمقالتهم، فجعلوا تلك المقالة: محنة صيرت الجماعة فرقتين: مؤمنون خلص على رسم ما أحدثوه، وكفار خلص على رسم المخالفة لهم، وذلك من شؤم البدعة التي تشتت شمل الجماعة المسلمة فتصيرها شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون. إذ لا يجتمع عندهم الإيمان وبعض شعب الكفر أو النفاق التي تقدح في إيمان صاحبها دون أن تأتي على أصله بالبطلان من قبيل الكذب والخيانة، كما في حديث آية المنافق، والصحيح اجتماع أصل الإيمان مع بعض شعب الكفر في قلب واحد، فلا يجتمع الأصلان: أصل الإيمان وأصل الكفران في قلب واحد، ولا يجتمع أصل الإيمان مع شعبة ناقضة له من شعب الكفر سواء أكانت اعتقادية أم قولية أم عملية، على التفصيل الذي قرره أهل العلم في مبحث نواقض الإسلام أو الإيمان، وإنما يجتمع أصل كل منهما مع شعب من الآخر لا تنقضه، فقد تجد مؤمنا ناقص الإيمان لقيام شعبة من الكفر أو النفاق به، وقد تجد كافرا قد قام به من خلال الإيمان من الحياء أو الصدق أو ......... إلخ، ما لا يكفي لإخراجه من حد الكفر، وإن استحق الثناء من جهة ما قام به من شعب الإيمان، لا سيما إن كان تخلقه بها تدينا، وكثيرا ما يوفق أمثال من تلك حاله إلى أصل الإيمان المصحح لتلك الأعمال فتصير على حد القبول، بعد أن كانت على حد: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا).

فالمحققون من أهل العلم قد أجابوا عن ذلك الاستدلال بنقص ذلك الاستقراء إذ هو كامل في سياقه الذي جاء لبيان أحوال الناس في الدار الآخرة على جهة العموم المجمل، فهم: إجمالا: مؤمن، وكافر على ضده، وتفصيلا: منهم المؤمن الذي قام به ما يستوجب وصف الكفر الأصغر دون الكفر الأكبر الناقض لأصل الإيمان، ومنهم المؤمن الذي قام به ما يستوجب وصف الفسق دون أن يخرج عن حد الإيمان، ومنهم المؤمن الذي قام به ما يستوجب وصف الظلم دون أن يخرج عن حد الإيمان، فمن الكفر: أكبر وأصغر، ومن الفسق: أكبر وأصغر، ومن الظلم: أكبر وأصغر، فهي ألفاظ تنقسم معانيها تبعا للسياق الذي ترد فيه.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير