تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الحاكمة، فأراده، جل وعلا، منه كونا، ولم يرده شرعا، لحكم ومصالح عظيمة تخفى على من نظر إلى ظاهر المفسدة الحالي دون ما يترتب عليها من حكم ومصالح تالية تظهر لمن صبر وتدبر ابتداء وتظهر للساخط بعد انقضاء الأمر وذهاب الصابرين بالأجر، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.

قال ابن القيم رحمه الله:

"وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّين} [المطففين: 7]، قال محمد بن كعب القرظي: رقم الله سبحانه كتاب الفجار في أَسفل الأَرض، فهم عاملون بما قد رقم عليهم في ذلكَ الكتاب ورقم كتاب الأَبرار فجعله في عليين، فهم يؤتى بهم حتى يعملوا ما قد رقم عليهم في ذلك الكتاب". اهـ

ص85، 86.

فأعمالهم الكائنة في عالم الشهادة واقعة على حد المكتوب في الكتاب الأول: سعادة أو شقاوة.

قال ابن القيم رحمه الله:

"وقال ابن عباس: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [المسد: 1]، بما جرى من القلم في اللوح المحفوظ، وقال مجاهد فى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنَ أَيْدِيَهِمْ سَدَّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدَّاً} [يس: 9]، قال: عن الحق. وفي قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة} [الإسراء: 46]، قال: فالجعبة فيها السهام". اهـ

ص86.

فوقع ضلال أبي لهب على حد ما جرى به القلم الأول في اللوح المحفوظ، فلو اجتمع أهل الأرض لهدايته كونا ما وقع ذلك، إذ المعلوم الأول قد قضي على حد الجزم، فلا يبدل القول لدى الرب، جل وعلا، وما هو بظلام للعبيد، إذ أقام عليه الحجة، فأرسل إليه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكلماته الشرعيات الملزمات، بل هو من أقرب الناس إليه فحظه من دعوته أعظم لداعي القرابة لا على حد المحاباة وإنما على حد تقديم الأولويات، فأهل الداعي أحق الناس ببركة دعوته، وهم من جهة أخرى: أولى الناس باتباعه فقد لزمهم من الحجة الملزمة ما لم يلزم غيرهم، ولذلك أفردوا بالذكر ابتداء في قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، لئلا يتوهموا أنهم بمنأى عن الوعيد لمكانهم من صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم جاء الأمر العام: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، وإلى ذلك أشار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، بقوله:

"ووجه الاهتمام أنهم أولى الناس بقبول نصحه وتعزيز جانبه ولئلا يسبق إلى أذهانهم أن ما يلقيه الرسول من الغلظة في الإنذار وأهوال الوعيد لا يقع عليهم لأنهم قرابة هذا المنذر وخاصته.

ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ندائه لهم: "لا أغني عنكم من الله شيئاً"، وأن فيه تعريضاً بقلة رعي كثير منهم حق القرابة إذ آذاه كثير منهم وعصَوْه مثل أبي لهب فلا يحسبوا أنهم ناجون في الحالتين وأن يعلموا أنهم لا يكتفَى من مؤمنهم بإيمانه حتى يضم إليه العمل الصالح؛ فهذا مما يدخل في النذارة، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية قرابتَه مؤمنين وكافرين". اهـ

فأرسل إليه الكلمات الشرعيات على الحد المتقدم الذكر، وأصح له آلات التكليف فالاستطاعة الشرعية في حقه كائنة، ولكنه شاء كونا، لحكم ومصالح تفوق مفسدة كفره الذي هو شر في نفسه لا في مُقَدِّره جل وعلا، شاء ألا يهتدي هداية الإلهام والانقياد لأمر الشرع، وإن وقعت له هداية البيان، بل قد جاء النص على كفره، فما استطاع مخالفته، ولو ظاهرا ليقدح في التنزيل الذي جاء مواطئا لما في الكتاب الأول، فتبت يده أزلا في عالم الغيب، ثم تبت في عالم الشهادة الوجودي ليصح تعلق العقاب بفعله فذلك من عدل الرب، جل وعلا، ورحمته بعباده، ولو كانوا كفارا على غير دينه وشرعه، فلا ثواب ولا عقاب إلا على مقدر كائن بإرادة العبد الاختيارية إيقاعه، مع كونها لا تخرج عن إرادة الرب، جل وعلا، الكونية العامة فلا خروج لعين أو فعل قائم بها عن مشيئته النافذة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير