وأما السد عن الحق فهو، أيضا، جار على مقتضى الإرادة الكونية، فالجعل كوني على حد الجزم، فلا مبدل له، وإحاطته بهم عامة، فقد أغلق دونهم أبواب الهداية الخاصة، فأقام من أمامهم ومن خلفهم السدود التي حجبت عن قلوبهم الهدى، وإن لم يحرمهم، بمقتضى عدله: بيان الحق بأدلة نقلية وعقلية قاطعة، مع صحة توجه التكليف إليهم فالعقل كائن، وآلات السمع والبصر صحيحة، ولكنها، كما تقدم، محجوبة عن إدراك الانتفاع، وإن لم تحجب عن إدراك الفهم والبيان، وليس كل من سمع وفهم بممتثل، فخلق إرادة الامتثال في القلب ليست لأحد إلا لله، عز وجل، الذي يصرف القلوب بمقتضى قدرته النافذة وحكمته البالغة، فمن شاء أقام قلبه فضلا، ومن شاء أزاغ قلبه عدلا.
وكذلك الجعل في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة): فهو جعل كوني لساتر، نكر تعظيما، حجب عن قلوبهم أشعة الهدى، وإن لم يحجب عنها أدلة الحق على وجه قامت به الحجة عليهم. ونسبة الجعل إليه، جل وعلا، على حد الجمع الذي دلت عليه: "نا" مئنة من وصف جلاله القاهر لقلوب عباده التي حكم عليها بالضلال عدلا، فلو كانت محالا صالحة للهدى لألهمها أسبابه على حد الامتثال.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال ابن عباس فى قوله تعالى: {وأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم} [الجاثية: 23]، قال: أَضله فى سابق علمه". اهـ
ص86.
فأضله على علم سابق بأنه أهل للضلال، فذلك من العلم الأول الذي لا يتبدل، كما تقدم مرارا، فمرد الأمر إلى: العلم السابق بحاله، والقدرة النافذة على خلق الهدى أو الضلال، والحكمة الصادرة عن العلم، إذ لا حكمة إلا بعلم سابق فذلك من التلازم العقلي بمكان، الحكمة في خلق كليهما: كلٌ في المحل المناسب له القابل لآثاره، أو: أضله بعد بلوغ الحجة، فضلاله عن علم قُطِعَ به عذره، فلم يضله ابتداء إذ ذلك من الظلم الذي حرمه الله، عز وجل، على نفسه، وإنما أقام عليه الحجة الصحيحة الصريحة، فسندها: متواتر يفيد العلم ضرورة بصحة صدورها من قائلها، ومبناها اللفظي: على حد الإيجاز والإيضاح فلا غموض في ألفاظها باستعمال وحشي الألفاظ أو غريب الكنايات والاستعارات كما يقع من أصحاب الطرائق الإشارية الذين أقاموا طرئقهم على أقوال رمزية لا يدرك كنهها عموم المكلفين، ومعناها: على حد البيان الرافع لكل إجمال. فتلك حجة الله، عز وجل، على خلقه، وتأمل حجة الدين الخاتم البالغة التي لا يجد أي عقل صحيح كلفة أو مشقة في تصورها في مقابل حجج أصحاب الملل والنحل التي يتعسف أصحابها في معرض الانتصار لها إلى حد إخراج الألفاظ عن معانيها الوضعية وسياقاتها اللفظية، فحججهم إما: نقل باطل أو مجرد دعوى تفتقر إلى دليل فلا دليل عليها أصلا، بل الدليل الصحيح الصريح شاهد عليها بالبطلان، أو: عقل فاسد يتلقف المتشابه فيصيره محكما يضرب به المحكم الحقيقي على طريقة أهل الزيغ في تتبع المتشابه، ومعارضة المحكم به.
وإلى المعنيين السابقين أشار ابن كثير، رحمه الله، بقوله:
"وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يحتمل قولين:
أحدها: وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك.
والآخر: وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة عليه. والثاني يستلزم الأول، ولا ينعكس". اهـ
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال في قوله تعالى حكاية عن عدوه إِبليس: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى} [الأعراف: 16]، قال: أَضللتني". اهـ
ص86.
فأضله الله، عز وجل، كونا، إذ أمره بالسجود لآدم استخراجا لمكنون صدره لتقام الحجة عليه من لفظه، ولما كانت له حسنات سابقات اقتضى عدل الرب، جل وعلا، إمهاله، فتحقق بذلك من كمال عدله وحكمته ما فاق مفسدة عصيان إبليس لأمره الشرعي، فبه عرف مقابله: الروح القدس، عليه السلام، فهو: معدن الخير الملائكي، في مقابل معدن الشر الإبليسي، وبضدها تتميز الأشياء، وبتدافع الضدين على حد تنتظم به أمور الكون، ظهر من آثار حكمة الرب، جل وعلا، ما ظهر، وبتسلطه على آدم عليه السلام وذريته بمقتضى الأمر الكوني النافذ، ظهر من فضائل بني آدم الذين حملوا لواء مجاهدته ومجاهدة أوليائه من الإنس والجان ما ظهر، فخلقه، وإن كان شرا في نفسه، إلا أن فيه من الخير ما استقام به أمر دار التكليف على هذا النسق البديع.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال فى قوله: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 162 - 163]، قال: من قضيت له أَنه صال الجحيم. وقال عمر بن عبد العزيز: لو أَراد الله أن لا يعصى لم يخلق إِبليس، وقد فصل لكم وبين لكم ما أَنتم عليه بفاتنين إِلا من قدَّر أَن يصلى الجحيم". اهـ
ص86.
فلا يملكون إلا فتنة من قضى الله، عز وجل، بمقتضى مشيئته النافذة، فتنته، على حد قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)، فتلك الفتنة الكونية بخلاف الفتنة الشرعية التي بها يقع الابتلاء بالتكليف لعموم العباد.
فغاية ما يملكون مع العبد الكافر المخذول: إضلاله، وغاية ما يملكون مع العبد المؤمن المسدد: الوسوسة له على حد حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، وفيه: "جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ قَالُوا نَعَمْ قَالَ ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ".
والإرادة في قول أمير المؤمنين الملهم المسدد عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، هي: الإرادة الكونية، إذ لم يرد، جل وعلا، بخلق إبليس معصيته على حد الإرادة الشرعية المستلزمة للرضا والمحبة، فيكون الكون كله مرادا له على حد الشرع، كما قال ذلك من قال من زنادقة الإباحية، وإنما أراد منهم الطاعة شرعا، وأراد منهم المعصية كونا لحكمة تربو على مفسدة وقوعها كما تقدم مرارا.
والله أعلى وأعلم.
¥