تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

استدراجا، ويضيق على من يشاء عدلا أو ابتلاء ليمحص قلب المبتلى ويرقيه بأجناس الابتلاء إلى مراتب علية لم يكن ليبلغها لولا ذلك الابتلاء، فهو عند التحقيق لمن تدبر فرضي ندبا أو صبر وجوبا: نعمة خالصة باعتبار المآل، وإن كان مصيبة باعتبار الحال.

فقوله تعالى: (وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ): مئنة من انفراده، عز وجل، بقسمة الأرزاق الشرعية، فهي: رحمات قد دل عليها عموم المضاف: "رحمة ربك"، يعطيها من شاء بمقتضى الفضل، ويحجبها عمن شاء بمقتضى العدل، كما تقدم مرارا.

وقوله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): مئنة من انفراده، عز وجل، بقسمة الأرزاق الكونية.

والشاهد من كل ما تقدم أن الجعل في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ): جعل كوني إذ لا حيلة في النبوة على حد: لا حيلة في الرزق، بل الرزق منه ما يكتسب بمعالجة أسبابه، بخلاف النبوة فهي اصطفاء رباني خالص لا يكتسب بمعالجة سبب من رياضة أو علم أو فراسة ........... إلخ من الطرائق التي باشرها غلاة أهل الطريق والفلاسفة المنتسبون إلى الملة الخاتمة، فهي عندهم: صناعة تحترف! إن كان للسالك من قوى التأثير والتخييل ما يؤهله لذلك.

فربك يرزق من يشاء بغير حساب، لكمال قدرته وغناه وعلمه وحكمته، فتلك الصفات، عند التحقيق، أخص صفات الربوبية في باب: الإعطاء فضلا أو الحرمان عدلا.

وقد يقال بأن الجعل شرعي، بالنظر إلى ما ذيلت به الآية من تعليل ذلك المنصب الشريف: منصب الإمامة في الدين بالصبر واليقين، فالصبر مئنة من اكتمال القوى العملية، واليقين مئنة من كمال القوى العلمية، وبكمال هاتين القوتين، وللأنبياء عليهم السلام منهما أعظم قدر وأوفر قسط، بكمالهما: يترقى صاحبهما في معاريج الكمال فيصير عابدا مختارا للأمر الشرعي مع كونه عبدا منقادا للأمر الكوني.

وهذان الوصفان لا يختصان بالأنبياء، عليهم السلام، وإن كان لهم منهما أعظم قدر كما تقدم آنفا، فيكون الجعل على هذا الحد: شرعيا، فكل من قام به وصف الصبر عملا واليقين علما فهو أهل للإمامة في الدين ولا يلزم من ذلك أن يكون نبيا، فتلك منزلة لا تكتسب، كما تقدم مرارا، وإنما الإمامة درجات، أعلاها النبوة التي لا تحصل بالأسباب، ودونها الإمامة التي وضع الرب، جل وعلا، لها بمقتضى سنته الكونية المحكمة أسبابا: من صبر ويقين بهما تحصل الرياسة في الدين على حد الكمال المرضي لا الصور الزائفة التي يدعيها من ليس من أهلها، وإن حصل من مسائل العلم ورسوم الرياسة ما جعله أهلا لقول الرب جل وعلا: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، فذلك حال كثير من أصحاب العمم الملفقة الذين ابتلينا بهم لتقصيرنا في تحصيل أسباب الدين وتعظيم أهله فسلط الله، عز وجل، على أدياننا كلابا تنهشها بمقالات فاسدة، كما سلط على أبداننا كلابا تنهشها بالأغذية الفاسدة، ففساد أسباب الشرع، بظهور الأئمة المضلين، وفساد أسباب الكون بظهور التجار والزراع والصناع الخائنين جار على حد قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، فبما كسبت أيدينا فهم أخس من أن ينالوا منا ما نكره إلا إذا شاء الرب، جل وعلا، ذلك عقوبة عادلة لنا إذ فرطنا في الكتاب، وهجرنا سنة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فتكون العبرة إذا استثنينا مقام النبوة بعموم اللفظ، إذ تَحققُ علتي الحكم من: الصبر واليقين مئنة من وقوعه فتنال الإمامة في الدين على غير رسم النبوة فلا مطمع في دركها، كما تقدم ذلك مرارا، فهو فرقان عظيم القدر بين: طريقة أهل الإسلام عموما وأهل السنة وخصوصا، وطرائق المتهوكين الحيارى الذين جعلوا عمد أدلتهم رؤى رهبان ومشايخ، فجفوا في حق النبوات بإحداث مصادر أخرى للتشريع من قبيل: أقوال الرجال الذين وسموا بالعصمة بلسان المقال أو الحال، فساووا الأنبياء في أخص أوصافهم فهم أنبياء لزوما لا تصريحا!.

ومن قبيل منامات الرهبان والزهاد الذين كبدوا أنفسهم مشقة الجوع والسهر طلبا لمنازل موهومة لو كان فيها ما يستحق المدح ما حجبت عن الأنبياء، عليهم السلام، وأتباعهم من خواص أصحابهم.

ومن قبيل الأذواق والمواجيد فهي محض هوى متبع وإن خالف دين التوحيد الجامع، وشرائع الأنبياء المحكمة.

ولكلٍ نبيه الذي يأخذ عنه دينه!، ولكل مصادره التي يتلقى عنها الأحكام والشرائع.

وفي مقابل أولئك على حد الطباق أو المقابلة بين الأضداد، وإن كانت الآية واردة في سياق آخر في سورة أخرى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ).

فذلك جعل كوني قولا واحدا، جار على حد ما قضى به الرب، جل وعلا، عليهم من الضلال في أنفسهم والإضلال لغيرهم بمقتضى كلماته الكونيات النافذة.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير