تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فمشيئتهم في قوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُون إِلا أَن يَشَاءَ الله) متعلقة بمشيئته الكونية النافذة، فإن شاءوا الهدى ولم يشأه الله، عز وجل، لهم، فلن يوفقوا إليه وإن بذلوا من الأسباب ما بذلوا، فإن الأبواب قد أوصدت دونهم، وكثيرا ما نجد عصاة يريدون فعلا الإقلاع عن المعصية، ولكنهم لا يقدرون على ذلك لتمكن المعصية من قلوبهم تمكن المخدر القوي من جسد المدمن، فأرادوا، ولكن إرادتهم غير جازمة إذ قد حل القدر الكوني عراها بمقتضى عدل الله، عز وجل، ولو شاء لعقدها فضلا، ولو أرادوا الهداية على حد الجزم، فتلك الإرادة للرب، جل وعلا، مخلوقة، فهي لإرادته تابعة، ولو تحقق الجزم الباطن ما وقع الفعل الظاهر إلا أن يشاء الله، عز وجل، وقوعه في عالم الشهادة بتصحيح الآلات أولا، فتلك الاستطاعة الشرعية التي يتعلق بها التكليف بالمقدورات، وتحريكها لمباشرة أسباب الفعل ثانيا، فتقع الاستطاعة الكونية التي بها يكون الفعل، فالأولى: لدى كل مكلف صح تعلق الأمر والنهي بفعله، والثانية: لا تكون إلا للملهم المسدد الذي وافقت إرادته: إرادة الشرع الحاكم فهو مريد للهداية متوجه إليها بقلبه على حد الجزم القاطع، وإرادة الكون النافذة فخلق الله، عز وجل، فيه طاقة الفعل التي يتعلق بها التكليف، وخلق فيه ذات الفعل على حد الإيجاد في عالم الشهادة، فكان عدما في عالم الغيب ثم صار ببرء الباري، عز وجل، له: حقيقة في عالم الشهادة أوقعها العبد على حد الفعل بإرادة مخلوقة مؤثرة، وأوجدها الرب، جل وعلا، على حد الخلق بإرادة كونية نافذة. فالجهة منفكة: جهة الخلق من الرب، وجهة الفعل من العبد، فذلك حد التوسط بين قول أهل الاعتزال الذين نظروا إلى الشطر الأول: (وَمَا تَشَاءُون)، وأهل الجبر الذين نظروا إلى الشطر الثاني: (إلا أَن يَشَاءَ الله).

وأما الملائكة فقد ردت العلم إلى الله، عز وجل، في قوله تعالى: (لا عِلمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا)، على حد القصر بأقوى أسالبيه: النفي والاستثناء، وهو حصر حقيقي، إذ لا علم لهم إلا ما علمهم الرب، جل وعلا، ولذلك صدروا الآية بالتسبيح والتنزيه، فذلك مقام لا يقبل الشريك كسائر أوصاف الرب، جل وعلا، فالاشتراك فيها مع المخلوق ممنوع إلا في المعاني الكلية المجردة، التي توجد في الأذهان مطلقة، فلا توجد في الخارج إلا مقيدة بمن قامت به: قيام الصفة بالموصوف، فهي لموصوفها تابعة، فوصف الرب، جل وعلا، فرع عن ذاته القدسية الكاملة، ووصف العبد فرع عن ذاته الأرضية الناقصة، فليس كالرب، جل وعلا، شيء، ذاتا وصفاتا، فليس كعلمه علم فهو العلم الأزلي المحيط بكل الكائنات على حد الإجمال والتفصيل، فعلمه قد عم الكليات والجزئيات، فكل علمه من علمه صادر، فلا علم لهم إلا ما علمهم، ولا علم للرسل إلا ما علمهم، ولا علم لنا من السنن الشرعية والسنن الكونية إلا ما علمنا، إذ أنزل على الرسل، عليهم السلام، الكتب بالأخبار والشرائع، فبلغوها على حد الكمال الذي أقيمت به الحجة، وجاءت الرسالة الخاتمة ناسخة جامعة لعلوم وأعمال الأولين، فحملها الأصحاب إلى سائر الأمم، فأسانيدها متصلة، وأصولها منضبطة، فتلك أعظم نعمة ربانية على البرية كما تقدم مرارا، فذلك علم السنن الشرعية.

ويسر لنا من أسباب المدنية ما حصل به فئام من البشر أجناسا شتى من العلوم الكونية، فعلوم الشرع والكون شعبة من علمه الأول المحيط. ثم ذيلوا الآية بعلة الخبر المتقدم على حد الفصل للتلازم الوثيق بين العلة والمعلول، فعلة قصر العلم على ما تفضل به الرب، جل وعلا، من المعلومات الشرعية والكونية، علته: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)، على حد التوكيد بالناسخ المؤكد: "إن"، وضمير الفصل، وتعريف الجزأين، وجاء التذييل بوصفي العلم وما يترتب عليه من الحكمة، ملائما لسياق انفراد الرب، جل وعلا، بالعلم المحيط، فحكمته فرع عن علمه، إذ الحكمة أخص من العلم، فلا تكون حكمة بلا علم، فذكرها بعد العلم من باب الترقي في أوصاف الكمال، وكل أوصاف ربنا، جل وعلا، قد بلغت حد الكمال المطلق، وإنما ذلك جار على ما تعارف عليه البشر من تضمن الحكمة للعلم على حد اللزوم، ولا عكس، فقد يوجد في عالم الشهادة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير