تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

رد الدعوى الباطلة بدعوى من جنسها على سبيل التنزل في الجدال لا الاعتقاد والانتحال في نفس الأمر، إذ لا ينتحل مؤمن ادعاء علم الغيب.

ومن قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ):

فهذا من المقابلة المستوفية لشطري القسمة العقلية في معرض تقرير عموم قدرة الرب، جل وعلا، على كل الممكنات، فمن يرد كونا هدايته يسر له أسباب الهدى فـ: "يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ"، وفي المقابل: من يرد كونا ضلاله، أضله بتضييق صدره وحجب الهداية عنه، وإن لم تحجب عنه حجتها، فقد تفضل الرب، جل وعلا، ببيان الحجة، فذلك فضل أول لا يستحقه مؤمن ولا كافر، على جهة الوجوب على الرب القاهر، جل وعلا، فلا موجب عليه إلا نفسه، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك مرارا، فبانت الحجة واختص الرب، جل وعلا، بعض عباده، بمقتضى علمه الأول فيهم وحكمته البالغة في إعطائهم وحرمان غيرهم، اختصهم بهداية الإلهام فهي أخص من هداية البيان، فليس كل من علم عمل، ولا عكس، فكل من عمل فقد علم ابتداء، فذلك من اللزوم العقلي بمكان، إذ العمل، كما تقدم مرارا، فرع عن العلم، فلا يتصور حكم عملي ظاهر إلا بعد تصور علمي باطن، والملك له، جل وعلا، مشفوعا بالحكمة التي لا يضع صاحبها الشيء إلا في موضعه، فوضع هدايته وتوفيقه في فئام من عباده حتى بلغوا حد النبوة اصطفاء والصديقية امتثالا، ورفعها عن فئام ليسوا لها بأهل، بل هم بضدها أحق، فلم يظلمهم ما هو لهم، بل حجب عنهم ما هو له، فلا يلام، جل وعلا، إذ منعهم ما ليس لهم، فالمانع إنما يلحقه الذم إذا منع غيره ما هو له، كحال الظالم الذي يقهر المظلوم حقه، وذلك معنى منتف في حق الله، عز وجل، بداهة، فإذا كان بعث الرسل ابتداء غير واجب عليه، عز وجل، بل هو من الممكن الجائز، فكيف يجب عليه ما هو أخص من: وجوب هداية الناس على حد الإلهام والانقياد؟!. ومنشأ الزلل كما تقدم مرارا: قياس فعل الرب، جل وعلا، على فعل العبد في تسوية جائرة، لا يشهد لها نقل صحيح أو عقل صريح، إذ قد علم بداهة مباينة الرب، جل وعلا، لخلقه: ذاتا وأسماء وصفات وأفعالا.

وقد ذيلت الآية بقوله تعالى: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ): فذلك من الجعل الكوني فرعا عن عدم الامتثال الشرعي، فوصف عدم الإيمان الذي اشتقت منه الصلة علة وقوع ذلك الجعل الكوني النافذ عليهم بالرجس المعنوي والعذاب الحسي، فأفادت الآية بمفهومها ارتفاع الحكم بارتفاع الوصف الجالب له، إذ الأحكام، كما اطرد مرارا، تدور مع عللها وجودا وعدما.

ومن قوله تعالى: (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ):

فالنفي قد تسلط على حد الجحود إمعانا في تقرير انتفاء الإيمان عنهم كونا، إلا أن يشاء الله، عز وجل، بقدره الكوني النافذ وقوعه منهم.

ومن قوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا):

ولكنه، عز وجل، كما تقدم مرارا، لم يشأ ذلك، وإن خاطبهم بخطاب الإيمان على حد الإلزام على ألسنة الرسل الكرام عليهم السلام، فحكمته قد اقتضت حجب مادة الإيمان عن قلوبهم، فخرجوا من دائرة فضله إلى دائرة عدله.

وكذلك قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا):

فدخلت اللام على: "لآمن": توكيدا وتقريرا، وأكد الفاعل بمؤكدين لفظيين: "كُلُّهُمْ جَمِيعًا"، مئنة من عموم قدرة الرب، جل وعلا، على الهداية الإيمانية فضلا، فإذا لم يشأ الرب، جل وعلا، ذلك مع كمال قدرته، فكيف تصح مشيئة العبد له، على حد الإلزام مع عجزه، ولو كان نبيا مرسلا بل لو كان خاتم المرسلين وأفضلهم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع عجزه عن هداية آحاد البشر على حد قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير