تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"وفي الصحيحين حديث ابن مسعود فى التخليق وفيه: (فوالذي لا إِله غيره إِن أَحدكم ليعمل بعمل أَهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إِلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أَهل النار فيدخل النار، وإِن أَحدكم ليعمل بعمل أَهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إِلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أَهل الجنة فيدخلها) "

ص89.

فيسبق عليه الكتاب الأول بالسعادة فييسر لعمل أهل السعادة، ولو في آخر حياته، فذلك من فضل الله عز وجل.

ويسبق على الآخر الكتاب أيضا فييسر لعمل أهل الشقاوة، ولو في آخر حياته، فذلك من عدل الله عز وجل.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وذكر الطبري الحسن بن علي الطوسي أَنبأَنا محمد بن يزيد الأَسفاطي البصري محدِّث البصرة قال: رأَيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النوم فقلت: يا رسول الله، حديث عبد الله بن مسعود حدثني الصادق المصدوق - أَعني حديث القدر - فقال: إي والله الذي لا إِله إِلا هو حدثت به، رحم الله عبد الله بن مسعود حيث حدث به، ورحم الله حيث حدث به، ورحم الله الأَعمش حيث حدث به، ورحم الله من حدث به قبل الأَعمش، ورحم الله من يحدث به بعد الأَعمش". اهـ

ص89.

فتلك من الرؤى التي يستأنس بها إذ الحديث ثابت بإسناده ابتداء، فليس المعول عليه في باب التصحيح والتضعيف: منامات غير الأنبياء عليهم السلام ممن لم تثبت بل انتفت عصمتهم، فليس كل ما نطق به غير الأنبياء عليهم السلام في أمر الديانة: صوابا، إذ ذلك لا يكون لغير المعصوم الموسوم بسمة الرسالة، فكل يؤخذ من كلامه وأحلامه ويرد عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وهذا فرقان في باب مصادر التلقي فإن الرؤى قد صارت عند فئام من البشر مصادر تشريعية مؤسسة أو ناسخة، فراهب يأتيه هاتف شيطاني في منامه بإباحة سائر المطعومات، ولو خبثت، فيصير دينا ملزما للأتباع، وشيخ يرى في المنام أضغاث أحلام فتصير رسم الطريقة الناجية!.

وما ذلك إلا لفقرهم من المنقول الصحيح، فهم من أجهل الناس به، فاستعاضوا عنه بمصادر تكميلية للشرائع المنقوصة، بزعمهم، فقد أتت عقولهم بما لا تأت به الأنبياء عليهم السلام من أحكام الحلال والحرام، والعمدة في ذلك: خارقة كونية تجري على يد القديس أو الشيخ، فيصير على حد العصمة، فما نطق به أو رآه هو الصواب المحض، إذ لا تجري الخارقة إلا على أيدي الخواص!، مع أن الثابت أن الخارقة قد جرت على أيدي كثير من المارقين، على حد فتنتهم في أنفسهم وفتنتهم لغيرهم.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: (الشقي من شقي فى بطن أُمه، والسعيد من وعظ بغيره) ".

ص89.

فالحديث جار مجرى التعريف المبين لمعرف مجمل فذلك آكد في التشويق، وقدم الشقي على السعيد، تخلية قبل التحلية، إذ النذير في هذا المقام أولى بالتقديم من البشير، فدرء المفاسد التي تتولد من الشقاوة مقدم على جلب المصالح التي تتولد من السعادة.

فالشقي هو من شقي على حد الجناس الاشتقاقي الذي يزيد المعنى بيانا، هو من شقي في بطن أمه بجريان قلم التكوين عليه بالقضاء الكوني النافذ بالشقاء، وليس ذلك بحائل بينه وبين تبعة التكليف إذ ذلك مما لا يعلمه ابتداء ليحتج به، بل هو لما خلق ميسر، فجرى القلم بما هو كائن، وأنزلت الكتب على الرسل، عليهم السلام، بالحجاج القاطع لأعذار أعداء الديانة، فالقدر كائن بما أراد الله، عز وجل، من الأزل، فالله، عز وجل، قد علم السعداء والأشقياء من الأزل فليس علمه بهم كائنا وقت كتابة المقادير في اللوح المحفوظ، بل هو كذاته القدسية: أول، فليس قبله، عز وجل، شيء: ذاتا أو صفاتا، والعلم من أوصافه الذاتية، فأزليته من أزلية الذات، وأوصاف الأفعال ذاتية من جهة نوعها، فأزليتها من أزلية الذات، وإن كانت آحادها حادثة وفق المشيئة الربانية النافذة.

والسعيد من وعظ بغيره: فذلك الشطر الثاني من القسمة العقلية، فتعريف الشقي في نفسه، وتعريف السعيد في الاتعاظ بغيره. ولن يكون ذلك إلا بمشيئة الله، عز وجل، له السعادة، فييسر له أسبابها، إذ لا يتوصل إلى الدرجات والدركات إلا بالعمل الذي ييسر الله، عز وجل، أسبابه: خيرا أو شرا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير