تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلا يظنن ظان أنه ناج بعمله مكتف بحوله وقوته، إذ ذلك وصف الخذلان، فلم يوكل أحد إلى حوله وقوته إلا عجز وهلك، إذ هو من الضعف بمكان، وأعداؤه من شياطين الإنس والجان من القوة والقدرة بمكان، فضلا عن نفسه الأمارة، وما يعرض له من النوازل المذهلة للعقول، والعوارض المذهبة للقوى العقلية والبدنية من مرض وعجز وهرم، فذلك مما يحل عرى الهمم البشرية التي يصيبها الضعف والكلال، فإن لم تلتجئ إلى الرب، عز وجل، على حد الافتقار والخروج من الحول والقوة، وكلت إلى قواها الذاتية، وهي كما تقدم، قوى من الضعف والنقص بمكان.

ومن كلام أئمة أهل الطريق المحققين في هذا الشأن الجليل:

كلام أبي سعيد الخراز رحمه الله: "من ظن أنه ببذل الجهد يصل فمتعنٍ ومن ظن أنه بغير الجهد يصل فمتمنٍ". اهـ

قال ابن تيمية رحمه الله:

"وهذا كلام حسن كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث الصحيح: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل ما قدر الله وما شاء فعل فإن اللو تفتح عمل الشيطان.

وقال: لن يدخل أحدا عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله. قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته". اهـ

"الاستقامة"، ص139.

فليس الجهد كافيا، إذ هو منقوص مدخول معارض بما يصعب حصره من العوارض والصوارف، فإن لم يكلله الباري، عز وجل، بالسداد والقبول، فيربيه، مع حقره في مقابل نعم الرب الكريم جل وعلا، فيربيه لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى يصير كأحد جرما ووزنا في ميزان الأعمال، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، إن لم يكلله الله، عز وجل، بالسداد والقبول على الحد المتقدم فصاحبه هالك لا محالة.

وليس الوصول إلى المراتب العلية بالأماني القلبية الجارية مجرى الوساوس النفسية، فتلك بضاعة المفلسين، بل لا بد من استجلاب قدر النجاة الكوني بما سنه الله، عز وجل، من أسباب الشرع، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له".

وهو الحديث التلي الذكر في كلام ابن القيم رحمه الله:

"وفي الصحيحين حديث على عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة"، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له: أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة"، ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسري} [الليل: 5 - 10] ". اهـ

ص89.

فقد علم أهل الجنة وأهل النار على حد القطع الجازم، فلا يتبدل القضاء النافذ، فقد أبرم وسطر في اللوح المحفوظ، وقضي الأمر، ولكن ذلك الأمر، كما تقدم، لا يستجلب إلا بسببه الذي يباشره العبد في عالم الشهادة فيصح تعلق العلم الثاني به، فهو الذي قد أنيط به قدر الثواب والعقاب الكوني، فلا ثواب ولا عقاب على مسطور غير كائن، حتى يصير مفعولا كائنا بإرادة العبد الاختيارية التي توافق مشيئة الرب الكونية حتما، وإن خالفت إرادته الشرعية حال العصيان، فيكون فعل الطاعة مستجلبا لقدر النجاة المسطور في الكتاب الأول، فلا بد من العمل إذ هو متعلق الثواب والعقاب، وكل ميسر، فإن النفوس قد خلقت للعمل لا للبطالة، فإن لم تستعمل في الطاعات، ولا يكون ذلك إلا بتيسير الرب، جل وعلا، لأسبابها فضلا وامتنانا، فيوجد في فاعلها استطاعة كونية يباشر بها الأسباب ويوقع بها الفعل على حد التأثير في إيقاعه لا الاقتران به كما قال أصحاب نظرية الكسب، وهي في تأثيرها لا تستقل عن الإرادة الكونية العامة فهي داخلة تحتها ضرورة، وإن صح تعلق التكليف بها إذ ليس الفاعل مكرها كونا، بل لو كان مكرها على حد ما قررته الشرائع من أحكام المكره فإنه لا يؤاخذ على أفعاله، على تفصيل في ذلك. فإن لم تستعمل تلك النفس في الطاعات: استعملت في ضدها من المعاصي والآثام، على ذات الحد من الاختيار الذي لا يخرج عن الإرادة الكونية العامة، فييسر الله، عز وجل، للعاصي، أسباب المعصية، عدلا إذ قضى عليه بالخذلان فهو له أهل، وإن توجه إليه خطاب التكليف

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير